يَتْرُكُهُ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَجُوزُ الْأَكْلُ فِي حَالَةِ الِاخْتِيَارِ وَإِنْ كَانَتْ الْمَذْبُوحَةُ أَكْثَرَ لِأَنَّ التَّحَرِّيَ دَلِيلٌ ضَرُورِيٌّ فَلَا يُصَارُ إلَيْهِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ، وَلَا ضَرُورَةَ لِأَنَّ الْحَالَةَ حَالَةُ الِاخْتِيَارِ. وَلَنَا أَنَّ الْغَلَبَةَ تَنْزِلُ مَنْزِلَةَ الضَّرُورَةِ فِي إفَادَةِ الْإِبَاحَةِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ أَسْوَاقَ الْمُسْلِمِينَ لَا تَخْلُو عَنْ الْمُحَرَّمِ الْمَسْرُوقِ وَالْمَغْصُوبِ وَمَعَ ذَلِكَ يُبَاحُ التَّنَاوُلُ اعْتِمَادًا عَلَى الْغَالِبِ، وَهَذَا لِأَنَّ الْقَلِيلَ لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ وَلَا يُسْتَطَاعُ الِامْتِنَاعُ مِنْهُ فَسَقَطَ اعْتِبَارُهُ دَفْعًا لِلْحَرَجِ كَقَلِيلِ النَّجَاسَةِ وَقَلِيلِ الِانْكِشَافِ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَا نِصْفَيْنِ أَوْ كَانَتْ الْمَيْتَةُ أَغْلَبَ لِأَنَّهُ لَا ضَرُورَةَ فِيهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ، وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ.
ـــــــــــــــــــــــــــــQهَذَا وَبَيْنَ الثِّيَابِ، فَإِنَّ الْمُسَافِرَ إذَا كَانَ مَعَهُ ثَوْبَانِ أَحَدُهُمَا نَجَسٌ وَالْآخَرُ طَاهِرٌ وَلَا يُمَيِّزُ بَيْنَهُمَا وَلَيْسَ مَعَهُ ثَوْبٌ غَيْرَهُمَا فَإِنَّهُ يَتَحَرَّى وَيُصَلِّي فِي الَّذِي يَقَعُ تَحَرِّيهِ أَنَّهُ طَاهِرٌ، فَقَدْ جَوَّزَ التَّحَرِّيَ هُنَاكَ فِيمَا إذَا كَانَ الثَّوْبُ النَّجَسُ وَالطَّاهِرُ نِصْفَيْنِ وَفِي الذَّكِيَّةِ وَالْمَيْتَةِ لَمْ يُجَوِّزْ.
وَأُجِيبَ بِأَنَّ وَجْهَ الْفَرْقِ هُوَ أَنَّ حُكْمَ الثِّيَابِ أَخَفُّ مِنْ غَيْرِهَا، لِأَنَّ الثِّيَابَ لَوْ كَانَتْ كُلُّهَا نَجِسَةً كَانَ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ فِي بَعْضِهَا ثُمَّ لَا يُعِيدُ صَلَاتَهُ لِأَنَّهُ مُضْطَرٌّ إلَى الصَّلَاةِ فِيهَا، بِخِلَافِ مَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ الْغَنَمِ، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ الرَّجُلَ إذَا لَمْ يَكُنْ مَعَهُ إلَّا ثَوْبٌ نَجَسٌ فَإِنْ كَانَ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِهِ نَجَسًا وَرُبْعُهُ طَاهِرٌ يُصَلِّي فِيهِ وَلَا يُصَلِّي عُرْيَانًا بِالْإِجْمَاعِ، فَلَمَّا جَازَتْ صَلَاتُهُ فِيهِ وَهُوَ نَجَسٌ بِيَقِينٍ فَلَأَنْ تَجُوزَ بِالتَّحَرِّي حَالَةَ الِاشْتِبَاهِ أَوْلَى انْتَهَى.
أَقُولُ: لَا الشُّبْهَةُ شَيْءٌ وَلَا الْجَوَابُ عِنْدِي. أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ تَجْوِيزَ التَّحَرِّي فِيمَا إذَا كَانَ الثَّوْبُ النَّجَسُ وَالطَّاهِرُ نِصْفَيْنِ إنَّمَا هُوَ فِي حَالَةِ الِاضْطِرَارِ بِأَنْ لَا يَكُونَ مَعَهُ ثَوْبٌ غَيْرُهُمَا كَمَا صَرَّحُوا بِهِ، وَعَدَمُ تَجْوِيزِهِ فِيمَا إذَا كَانَتْ الْمَيْتَةُ وَالذَّكِيَّةُ نِصْفَيْنِ إنَّمَا هُوَ فِي حَالَةِ الِاخْتِيَارِ كَمَا صَرَّحُوا بِهِ فِي شُرُوحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَصَرَّحَ بِهِ الْمُصَنِّفُ هُنَا بِقَوْلِهِ وَهَذَا إذَا كَانَتْ الْحَالَةُ حَالَةَ الِاخْتِيَارِ، أَمَّا فِي حَالَةِ الضَّرُورَةِ يَحِلُّ لَهُ التَّنَاوُلُ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ فَلَا تَتَوَجَّهُ الْمُطَالَبَةُ بِالْفَرْقِ بَيْنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ رَأْسًا لِظُهُورِ اخْتِلَافِ حُكْمَيْ حَالَتَيْ الِاخْتِيَارِ وَالِاضْطِرَارِ قَطْعًا. وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّ مَا ذُكِرَ فِيهِ لَا يَقْتَضِي كَوْنَ حُكْمِ الثِّيَابِ أَخَفَّ مِنْ حُكْمِ غَيْرِهَا. لِأَنَّ جَوَازَ الصَّلَاةِ فِي بَعْضِ الثِّيَابِ عِنْدَ كَوْنِ كُلِّهَا نَجِسَةً وَعَدَمَ لُزُومِ إعَادَةِ الصَّلَاةِ إذْ ذَاكَ إنَّمَا هُوَ فِي حَالَةِ الِاضْطِرَارِ كَمَا أَفْصَحَ عَنْهُ الْمُجِيبُ بِقَوْلِهِ لِأَنَّهُ مُضْطَرٌّ إلَى الصَّلَاةِ فِيهَا، وَكَوْنُ مَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ الْغَنَمِ بِخِلَافِ ذَلِكَ إنَّمَا هُوَ فِي حَالَةِ الِاخْتِيَارِ كَمَا تَحَقَّقْته، فَمِنْ أَيْنَ يَثْبُتُ كَوْنُ حُكْمِ الثِّيَابِ أَخَفَّ مِنْ حُكْمِ غَيْرِهَا مُطْلَقًا حَتَّى يَصْلُحَ أَنْ يُجْعَلُ مَدَارَ الْفَرْقِ بَيْنَ تَيْنِك الْمَسْأَلَتَيْنِ.
قَالَ مُؤَلِّفُ الْكِتَابِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - هَذَا آخِرُ مَا تَيَسَّرَ لَنَا مِنْ شَرْحِ الْهِدَايَةِ بِتَوْفِيقٍ مِنْ اللَّهِ وَهِدَايَةٍ، أَلَّفْتُهُ مَعَ تَوَزُّعِ الْخَاطِرِ وَتَشَتُّتِ الْبَالِ مِنْ تَرَاكُمِ الْهُمُومِ وَكَثْرَةِ الْبَلْبَالِ، وَسَمَّيْتُهُ: (نَتَائِجُ الْأَفْكَارِ فِي كَشْفِ الرُّمُوزِ وَالْأَسْرَارِ) لِاشْتِمَالِهِ عَلَى ثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنْ التَّصَرُّفَاتِ الَّتِي لَمْ يَسْبِقْنِي إلَيْهَا أَحَدٌ مِنْ الثِّقَاتِ، ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ، فَلَهُ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةِ وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ، رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ، رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ، وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَالْأَنْصَارِ تَمَّ.