وَتَأْوِيلُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِهَا لِلتَّدَاوِي، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذِهِ الْجُمْلَةَ فِيمَا تَقَدَّمَ فِي الصَّلَاةِ وَالذَّبَائِحِ فَلَا نُعِيدُهَا، وَاللَّبَنُ مُتَوَلِّدٌ مِنْ اللَّحْمِ فَأَخَذَ حُكْمَهُ
، قَالَ (وَلَا يَجُوزُ الْأَكْلُ وَالشُّرْبُ وَالِادِّهَانُ وَالتَّطَيُّبُ فِي آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ) لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي الَّذِي يَشْرَبُ فِي إنَاءِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ «إنَّمَا يُجَرْجِرُ فِي بَطْنِهِ نَارَ جَهَنَّمَ» «وَأُتِيَ أَبُو هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِشَرَابٍ فِي إنَاءِ فِضَّةٍ فَلَمْ يَقْبَلْهُ وَقَالَ:
ـــــــــــــــــــــــــــــQمَا يَتَعَلَّقُ بِالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ فِي هَذَا الْفَصْلِ غَيْرُ مُنْحَصِرٍ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، بَلْ كَثِيرٌ مِنْ الْمَسَائِلِ الْآتِيَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذَا الْفَصْلِ مِنْ مَسَائِلِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ أَيْضًا، فَيَصِحُّ عِنْوَانُ الْفَصْلِ بِالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ، سَوَاءٌ لَمْ تُذْكَرْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِيهِ أَصْلًا أَوْ ذَكَرَ مَعَهَا غَيْرَهَا أَيْضًا مِمَّا سَبَقَ فِي الذَّبَائِحِ. وَأَمَّا حَدِيثُ ذِكْرِ بَعْضٍ مِنْ الْمَسَائِلِ السَّابِقَةِ فِي الذَّبَائِحِ تَذْكِيرًا لِلْبَوَاقِي فَغَيْرُ تَامٍّ أَيْضًا؛ لِأَنَّ ذِكْرَ مَا ذَكَرَ مَرَّ وَبُيِّنَ مُسْتَوْفًى تَذْكِيرًا لِبَوَاقِي الْمَذْكُورَاتِ لَيْسَ مِنْ دَأْبِ الْمُصَنِّفِينَ وَلَا مِمَّا يَهُمُّ أَصْلًا، ثُمَّ أَقُولُ: الْأَوْجُهُ أَنْ يُقَالَ: إنَّمَا خَصَّ الْأُتُنَ بِالذِّكْرِ مَعَ كَرَاهَةِ لُحُومِ غَيْرِهَا أَيْضًا؛ لِأَنَّ جَمِيعَ مَا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ قَدْ ذُكِرَ فِي الذَّبَائِحِ مُسْتَوْفًى، وَكَرَاهَةُ لُحُومِ الْأُتُنِ إنَّمَا ذُكِرْت هَاهُنَا تَوْطِئَةً لِكَرَاهَةِ أَلْبَانِهَا الَّتِي لَمْ تُذْكَرْ فِيمَا مَرَّ قَطُّ، وَلَا مَدْخَلَ لِكَرَاهَةِ لُحُومِ غَيْرِهَا فِي التَّوْطِئَةِ لِذَلِكَ فَلَا جَرَمَ خَصَّ الْأُتُنَ بِالذِّكْرِ دُونَ غَيْرِهَا. ثُمَّ قَالَ ذَلِكَ الْبَعْضُ: وَأَمَّا حُكْمُ أَبْوَالِ الْإِبِلِ فَإِنَّمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فِيمَا سَبَقَ، وَذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ هَاهُنَا فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ، فَلَيْسَ فِيهِ التَّكْرَارُ حَتَّى يَحْتَاجُ فِيهِ إلَى الِاعْتِذَارِ انْتَهَى كَلَامُهُ.
أَقُولُ: لَيْسَ هَذَا بِكَلَامٍ صَحِيحٍ؛ لِأَنَّ الْمُصَنِّفَ أَيْضًا ذَكَرَهُ هَاهُنَا فِي الْهِدَايَةِ وَالْبِدَايَةِ فَلَزِمَهُ التَّكْرَارُ قَطْعًا، وَإِنَّمَا لَمْ يَلْزَمْهُ التَّكْرَارُ لَوْ ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَلَمْ يَذْكُرْهُ الْمُصَنِّفُ هَاهُنَا. وَأَمَّا كَوْنُ مَأْخَذِ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ هَاهُنَا مَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ فَلَا يُجْدِي شَيْئًا فِي دَفْعِ التَّكْرَارِ؛ لِأَنَّ الْمُصَنِّفَ لَيْسَ فِي حَيِّزِ الِاجْتِهَادِ، فَكُلُّ مَا ذَكَرَهُ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِ مُجْتَهِدٍ، فَإِذَا ذَكَرَ مَسْأَلَةً مَرَّتَيْنِ لَزِمَ التَّكْرَارُ لَا مَحَالَةَ (قَوْلُهُ وَتَأْوِيلُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ لَا بَأْسَ بِهِ لِلتَّدَاوِي) إنَّمَا احْتَاجَ الْمُصَنِّفُ إلَى هَذَا التَّأْوِيلِ؛ لِأَنَّ مَذْهَبَ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ بَوْلَ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ نَجِسٌ لِمَا مَرَّ فِي كِتَابِ الطَّهَارَاتِ فَلَزِمَ أَنْ يَكُونَ شُرْبُهُ حَرَامًا.
وَالْمَفْهُومُ مِنْ قَوْلِهِ هَاهُنَا: وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: لَا بَأْسَ بِأَبْوَالِ الْإِبِلِ حِلُّ شُرْبِهَا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ أَيْضًا. فَأَوَّلَ الْمُصَنِّفُ قَوْلَ أَبِي يُوسُفَ الْمَذْكُورَ هَاهُنَا بِنَفْيِ الْبَأْسِ عَنْ شُرْبِهَا لِلتَّدَاوِي، وَشُرْبُهَا لِلتَّدَاوِي لَيْسَ بِحَرَامٍ عِنْدَهُ، وَإِنْ كَانَتْ نَجِسًا تَمَسُّكًا بِقِصَّةِ الْعُرَنِيِّينَ كَمَا مَرَّ بَيَانُهُ فِي كِتَابِ الطَّهَارَاتِ.
قَالَ صَاحِبُ غَايَةِ الْبَيَانِ فِي هَذَا الْمَقَامِ: وَأَمَّا قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: لَا بَأْسَ بِذَلِكَ، فَمُنْصَرِفٌ إلَى لَحْمِ الْفَرَسِ خَاصَّةً، لِأَنَّ بَوْلَ الْإِبِلِ نَجِسٌ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ أَيْضًا، إلَّا أَنَّهُ أَطْلَقَ شُرْبَهُ لِلتَّدَاوِي، وَقَدْ مَرَّ فِي كِتَابِ الطَّهَارَاتِ فِي فَصْلِ الْبِئْرِ انْتَهَى. أَقُولُ: فِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ لَفْظَ مُحَمَّدٍ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ هَكَذَا: مُحَمَّدٌ عَنْ يَعْقُوبَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ قَالَ: أَكْرَهُ شُرْبَ أَبْوَالِ الْإِبِلِ وَأَكْلَ لُحُومِ الْفَرَسِ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: لَا بَأْسَ بِذَلِكَ إلَى هُنَا لَفْظُ مُحَمَّدٍ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ، وَقَدْ اعْتَرَفَ بِهِ الشَّارِحُ الْمَذْكُورُ حَيْثُ ذَكَرَ لَفْظَهُ هَكَذَا بِعَيْنِهِ: وَلَا يَذْهَبُ عَلَيْك أَنَّ عِبَارَةَ كُلِّهِ فِي قَوْلِهِ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ لَا بَأْسَ بِذَلِكَ كُلِّهِ تَمْنَعُ مِنْ أَنْ يَكُونَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ مُنْصَرِفًا إلَى لَحْمِ الْفَرَسِ خَاصَّةً، بَلْ يَقْتَضِي شُمُولَهُ لِأَبْوَالِ الْإِبِلِ أَيْضًا (قَوْلُهُ وَقَدْ بَيَّنَّا هَذِهِ الْجُمْلَةَ فِيمَا تَقَدَّمَ فِي الصَّلَاةِ وَالذَّبَائِحِ فَلَا نُعِيدُهَا) أَقُولُ: فِي رَوَاجِ هَذِهِ الْحَوَالَةِ بَحْثٌ، فَإِنَّ أَلْبَانَ الْأُتُنِ مِنْ هَذِهِ الْجُمْلَةِ