سَبَبِهِ، وَالْمَعْنَى فِيهِمَا التَّنَاصُرُ، وَكَانَتْ الْعَرَبُ تَتَنَاصَرُ بِأَشْيَاءَ، وَقَرَّرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَنَاصُرَهُمْ بِالْوَلَاءِ بِنَوْعَيْهِ فَقَالَ: «إنَّ مَوْلَى الْقَوْمِ مِنْهُمْ وَحَلِيفُهُمْ مِنْهُمْ» وَالْمُرَادُ بِالْحَلِيفِ مَوْلَى الْمُوَالَاةِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُؤَكِّدُونَ الْمُوَالَاةَ بِالْحِلْفِ.
قَالَ (وَإِذَا أَعْتَقَ الْمَوْلَى مَمْلُوكَهُ فَوَلَاؤُهُ لَهُ) لِقَوْلِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ»
ـــــــــــــــــــــــــــــQإعْتَاقَ هُنَاكَ، فَالصَّحِيحُ أَنَّ سَبَبَهُ الْعِتْقُ عَلَى مِلْكِهِ، أَلَا يَرَى أَنَّهُ يُقَالُ: وَلَاءُ الْعَتَاقَةِ وَلَا يُقَالُ وَلَاءُ الْإِعْتَاقِ، وَالْحُكْمُ يُضَافُ إلَى سَبَبِهِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ» فَالْمُرَادُ أَنَّ الْوَلَاءَ لَهُ بِسَبَبِ الْعِتْقِ لَا بِسَبَبِ الْإِعْتَاقِ، فَإِنَّ فِي الْإِعْتَاقِ عِتْقًا بِدُونِ الْعَكْسِ، هَذَا زُبْدَةُ مَا فِي جُمْلَةِ الشُّرُوحِ هَاهُنَا.
وَقَالَ فِي الْبَدَائِعِ: أَمَّا سَبَبُ ثُبُوتِهِ فَالْعِتْقُ سَوَاءٌ كَانَ الْعِتْقُ حَاصِلًا بِصُنْعِهِ وَهُوَ الْإِعْتَاقُ أَوْ مَا يَجْرِي مُجْرَى الْإِعْتَاقِ شَرْعًا كَشِرَاءِ الْقَرِيبِ وَقَبُولِ الْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ وَالْوَصِيَّةِ، أَوْ بِغَيْرِ صُنْعِهِ بِأَنْ وَرِثَ قَرِيبَهُ، وَسَوَاءٌ أَعْتَقَهُ تَطَوُّعًا أَوْ عَنْ وَاجِبٍ عَلَيْهِ كَالْإِعْتَاقِ عَنْ كَفَّارَةِ الْقَتْلِ وَالظِّهَارِ وَالْإِفْطَارِ وَالْيَمِينِ وَالنَّذْرِ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْإِعْتَاقُ بِغَيْرِ بَدَلٍ أَوْ بِبَدَلٍ وَهُوَ الْإِعْتَاقُ عَلَى مَالٍ، وَسَوَاءٌ كَانَ مُنَجَّزًا أَوْ مُعَلَّقًا بِشَرْطٍ أَوْ مُضَافًا إلَى وَقْتٍ، وَسَوَاءٌ كَانَ صَرِيحًا أَوْ يَجْرِي مَجْرَى الصَّرِيحِ أَوْ كِنَايَةً أَوْ يَجْرِي مَجْرَى الْكِنَايَةِ، وَكَذَا الْعِتْقُ الْحَاصِلُ بِالتَّدْبِيرِ وَالِاسْتِيلَادِ، وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ» مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ إلَى هُنَا لَفْظُ الْبَدَائِعِ. أَقُولُ: كَوْنُ الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ أَصْلًا فِي حَقِّ الصُّوَرِ الْمَزْبُورَةِ كُلِّهَا مَحَلُّ نَظَرٍ، فَإِنَّ فِي صُورَةِ إنْ كَانَ الْعِتْقُ حَاصِلًا بِغَيْرِ صُنْعِهِ كَمَا إذَا وَرِثَ قَرِيبَهُ لَا يُوجَدُ الْإِعْتَاقُ فَلَا تَنْدَرِجُ تَحْتَ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ» فَلْيُتَأَمَّلْ فِي الدَّفْعِ (قَوْلُهُ وَالْمَعْنَى فِيهِمَا التَّنَاصُرُ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: قَوْلُهُ وَالْمَعْنَى فِيهِمَا التَّنَاصُرُ بَيَانُ مَفْهُومِهِمَا الشَّرْعِيِّ اهـ. أَقُولُ: فِيهِ بَحْثٌ، إذْ لَيْسَ مَفْهُومُهُمَا الشَّرْعِيُّ مُطْلَقَ التَّنَاصُرِ، بَلْ تَنَاصُرٌ يُوجِبُ الْإِرْثَ وَالْعَقْلَ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الشَّارِحُ الْمَزْبُورُ وَغَيْرُهُ، وَبِهَذَا الْخُصُوصِ يَمْتَازُ مَفْهُومُهُمَا الشَّرْعِيُّ عَنْ مَفْهُومِهِمَا اللُّغَوِيِّ كَمَا عَرَفْت، فَلَوْ كَانَ مُرَادُ الْمُصَنِّفِ بِقَوْلِهِ الْمَذْكُورِ بَيَانَ مَفْهُومِهِمَا الشَّرْعِيِّ لَمَا أَطْلَقَ التَّنَاصُرَ بَلْ خَصَّصَهُ بِمَا هُوَ الْمُعْتَبَرُ فِي مَفْهُومِهِمَا الشَّرْعِيِّ، عَلَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ مُرَادُهُ بَيَانَ مَفْهُومِهِمَا لُغَوِيًّا كَانَ أَوْ شَرْعِيًّا لَقَالَ وَمَعْنَاهُمَا التَّنَاصُرُ دُونَ أَنْ يَقُولَ وَالْمَعْنَى فِيهِمَا التَّنَاصُرُ كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى مَنْ لَهُ دُرْبَةٌ بِأَسَالِيبِ الْكَلَامِ. وَالْحَقُّ أَنَّ مُرَادَ الْمُصَنِّفِ بِقَوْلِهِ الْمَذْكُورِ بَيَانُ الْمَقْصُودِ مِنْهُمَا لَا بَيَانُ مَفْهُومِهِمَا، وَعَنْ هَذَا قَالَ صَاحِبُ الْكَافِي بَدَلَ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ وَالْمَعْنَى فِيهِمَا التَّنَاصُرُ، وَالْمَطْلُوبُ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا التَّنَاصُرُ كَمَا قَالَ فِي الْمَبْسُوطِ أَيْضًا كَذَلِكَ كَمَا مَرَّ تَدَبَّرْ تَرْشُدْ
(قَوْلُهُ وَإِذَا أَعْتَقَ الْمَوْلَى مَمْلُوكَهُ فَوَلَاؤُهُ لَهُ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ» ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: وَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ أَنَّ الْحُكْمَ إذَا تَرَتَّبَ عَلَى مُشْتَقٍّ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُشْتَقَّ مِنْهُ عِلَّةٌ لِذَلِكَ الْحُكْمِ اهـ.
أَقُولُ: لَا يَذْهَبْ عَلَيْكَ أَنَّ حَلَّ هَذَا الْمَحَلِّ بِهَذَا الْوَجْهِ لَيْسَ بِسَدِيدٍ، إذْ لَا شَكَّ أَنَّ الْمَطْلُوبَ بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بَيَانُ مَنْ لَهُ الْوَلَاءُ لَا بَيَانُ عِلَّةِ الْوَلَاءِ، وَالْوَجْهُ الْمَذْكُورُ إنَّمَا يُفِيدُ الثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ فَلَا يَتِمُّ التَّقْرِيبُ، وَالصَّوَابُ أَنَّ وَجْهَ الِاسْتِدْلَالِ هَاهُنَا هُوَ أَنَّ لَامَ الْجِنْسِ فِي قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - " الْوَلَاءُ " وَلَامَ الِاخْتِصَاصِ فِي قَوْلِهِ " لِمَنْ أَعْتَقَ " تَدُلَّانِ عَلَى أَنَّ جِنْسَ الْوَلَاءِ لِمَنْ أَعْتَقَ دُونَ غَيْرِهِ كَمَا قَالُوا فِي قَوْله تَعَالَى {الْحَمْدُ لِلَّهِ} [الفاتحة: 2] دَلَّ بِلَامَيْ الْجِنْسِ وَالِاخْتِصَاصِ عَلَى اخْتِصَاصِ جِنْسِ الْمَحَامِدِ بِاَللَّهِ تَعَالَى. ثُمَّ قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: