. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــQغَايَةِ الْبَيَانِ
(وَكَذَا بِإِيفَائِهَا وَاسْتِيفَائِهَا) أَيْ وَكَذَا تَجُوزُ الْوَكَالَةُ بِإِيفَاءِ الْحُقُوقِ وَاسْتِيفَائِهَا لِمَا مَرَّ مِنْ دَفْعِ الْحَاجَةِ (إلَّا فِي الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ فَإِنَّ الْوَكَالَةَ لَا تَصِحُّ بِاسْتِيفَائِهَا) أَيْ بِاسْتِيفَاءِ الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ (مَعَ غَيْبَةِ الْمُوَكِّلِ عَنْ الْمَجْلِسِ) وَأَمَّا الْوَكَالَةُ بِإِيفَاءِ الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ فَعَدَمُ صِحَّتِهَا مُطْلَقًا: أَيْ مَعَ غَيْبَةِ الْمُوَكِّلِ وَمَعَ حُضُورِهِ أَمْرٌ بَيِّنٌ؛ لِأَنَّ إيفَاءَهَا إنَّمَا يَكُونُ بِتَسْلِيمِ النَّفْسِ أَوْ الْبَدَنِ لِإِقَامَةِ الْعُقُوبَةِ الْوَاجِبَةِ، وَهَذَا لَا يَصِحُّ إلَّا مِنْ الْجَانِي، إذْ إقَامَةُ الْعُقُوبَةِ عَلَى غَيْرِ الْجَانِي ظُلْمٌ صَرِيحٌ. فَلِذَلِكَ اكْتَفَى الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِنَفْيِ صِحَّةِ الْوَكَالَةِ بِاسْتِيفَائِهَا مَعَ غَيْبَةِ الْمُوَكِّلِ، وَقَالَ فِي تَعْلِيلِهِ (لِأَنَّهَا) أَيْ الْحُدُودَ وَالْقِصَاصَ (تَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ) فَلَا تُسْتَوْفَى بِمَنْ يَقُومُ مَقَامَ الْغَيْرِ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ ضَرْبِ شُبْهَةٍ كَمَا فِي كِتَابِ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي وَالشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ وَشَهَادَةِ النِّسَاءِ مَعَ الرِّجَالِ (وَشُبْهَةُ الْعَفْوِ ثَابِتَةٌ حَالَ غَيْبَتِهِ) أَيْ غَيْبَةِ الْمُوَكِّلِ، وَهَذَا الْوَجْهُ مَخْصُوصٌ بِالْقِصَاصِ، إذْ الْحُدُودُ لَا يُعْفَى عَنْهَا، فَالْمُرَادُ أَنَّ فِي الْقِصَاصِ ثُبُوتَ شُبْهَةٍ أُخْرَى حَالَ غَيْبَةِ الْمُوَكِّلِ وَهِيَ شُبْهَةُ الْعَفْوِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْمُوَكِّلُ قَدْ عَفَا وَلَمْ يَشْعُرْ بِهِ الْوَكِيلُ (بَلْ هُوَ الظَّاهِرُ) أَيْ بَلْ الْعَفْوُ هُوَ الظَّاهِرُ (لِلنَّدْبِ الشَّرْعِيِّ) لِقَوْلِهِ {وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [البقرة: 237] وَفِي الْقِصَاصِ خِلَافُ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَإِنَّهُ يَقُولُ: هُوَ خَالِصُ حَقِّ الْعَبْدِ فَيُسْتَوْفَى بِالتَّوْكِيلِ كَسَائِرِ حُقُوقِهِ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْ نَفْسِهِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ: هَذِهِ عُقُوبَةٌ تَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ، بِخِلَافِ سَائِرِ حُقُوقِهِ فَافْتَرَقَا (بِخِلَافِ غَيْبَةِ الشَّاهِدِ) حَيْثُ يَسْتَوْفِيَ الْحُدُودَ وَالْقِصَاصَ عِنْدَ غَيْبَتِهِ (لِأَنَّ الظَّاهِرَ عَدَمُ الرُّجُوعِ) يَعْنِي أَنَّ الشُّبْهَةَ فِي حَقِّ الشَّاهِدِ هِيَ الرُّجُوعُ وَالظَّاهِرُ فِي حَقِّهِ عَدَمُ الرُّجُوعِ، إذْ الصِّدْقُ هُوَ الْأَصْلُ لَا سِيَّمَا فِي الْعُدُولِ فَلَمْ يَعْتَبِرْ مِثْلَ هَاتَيْكَ الشُّبْهَةِ.
أَقُولُ: يُرَدُّ عَلَيْهِ أَنَّ الرَّجْمَ مِنْ الْحُدُودِ وَلَا يُسْتَوْفَى عِنْدَ غَيْبَةِ الشُّهُودِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ كَمَا مَرَّ فِي كِتَابِ الْحُدُودِ، وَيَقْتَضِي ذَلِكَ اعْتِبَارَ شُبْهَةِ الرُّجُوعِ فِي حَقِّ الشُّهُودِ هُنَاكَ، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يُقَالَ: عَدَمُ اسْتِيفَاءِ الْحَدِّ إذْ ذَاكَ لِفَوَاتِ الشَّرْطِ وَهُوَ بُدَاءَةُ الشُّهُودِ بِالرَّجْمِ لَا بِمُجَرَّدِ شُبْهَةِ الرُّجُوعِ فَتَأَمَّلْ (وَبِخِلَافِ حَالَةِ الْحَضْرَةِ) أَيْ حَضْرَةِ الْمُوَكِّلِ فِي الْمَجْلِسِ حَيْثُ يُسْتَوْفَى ذَلِكَ عِنْدَهَا (لِانْتِفَاءِ هَذِهِ الشُّبْهَةِ) أَيْ شُبْهَةِ الْعَفْوِ، فَإِنَّ الْعَفْوَ عِنْدَ حُضُورِ الْمُوَكِّلِ مِمَّا لَا يَخْفَى فَلَا شُبْهَةَ، أَقُولُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ إنَّ انْتِفَاءَ الشُّبْهَةِ الْمُعَيَّنَةِ لَا يَقْتَضِي انْتِفَاءَ الشُّبْهَةِ مُطْلَقًا، وَالْحُدُودُ وَالْقِصَاصُ تَنْدَرِئُ بِمُطْلَقِ الشُّبُهَاتِ فَلَا يَتِمُّ التَّقْرِيبُ عَلَى أَنَّ شُبْهَةَ الْعَفْوِ مَخْصُوصَةٌ بِالْقِصَاصِ، فَلَمْ يَظْهَرْ الْفَرْقُ بَيْنَ الْحَضْرَةِ وَالْغَيْبَةِ فِي اسْتِيفَاءِ الْحُدُودِ أَصْلًا. وَلَمَا اُسْتُشْعِرَ أَنْ يُقَالَ إذَا كَانَ الْمُوَكِّلُ حَاضِرًا لَمْ يَحْتَجْ إلَى التَّوْكِيلِ بِالِاسْتِيفَاءِ رَأْسًا إذْ هُوَ يَسْتَوْفِيهِ بِنَفْسِهِ أَجَابَ بِقَوْلِهِ (وَلَيْسَ كُلُّ أَحَدٍ يُحْسِنُ الِاسْتِيفَاءَ) إمَّا لِقِلَّةِ هِدَايَتِهِ، أَوْ لِأَنَّ قَلْبَهُ لَا يَتَحَمَّلُ ذَلِكَ (فَلَوْ مُنِعَ عَنْهُ) أَيْ عَنْ التَّوْكِيلِ بِالِاسْتِيفَاءِ (يَنْسَدُّ بَابُ الِاسْتِيفَاءِ أَصْلًا) أَيْ يَنْسَدُّ بَابُهُ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ بِالْكُلِّيَّةِ فَجَازَ التَّوْكِيلُ بِالِاسْتِيفَاءِ عِنْدَ حُضُورِهِ اسْتِحْسَانًا لِئَلَّا يَنْسَدَّ بَابُهُ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -) وَقَالَ جُمْهُورُ الشُّرَّاحِ فِي تَفْسِيرِ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ: هَذَا أَيْ جَوَازُ التَّوْكِيلِ بِإِثْبَاتِ الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وَقَالُوا فِي تَوْجِيهِ تَفْسِيرِهِمْ إيَّاهُ بِهَذَا الْمَعْنَى: لِأَنَّهُ لَمَّا قَالَ وَتَجُوزُ الْوَكَالَةُ بِالْخُصُومَةِ فِي سَائِرِ الْحُقُوقِ: أَيْ جَمِيعِهَا وَبِإِيفَائِهَا وَاسْتِيفَائِهَا، وَاسْتَثْنَى إيفَاءَ الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ وَاسْتِيفَاءَهَا بَقِيَتْ الْخُصُومَةُ بِالْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ دَاخِلَةً فِي قَوْلِهِ بِالْخُصُومَةِ فِي سَائِرِ الْحُقُوقِ فَقَالَ: هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. أَقُولُ: لَا يَذْهَبُ عَلَى ذِي فِطْرَةٍ سَلِيمَةٍ أَنَّ هَذَا الَّذِي ارْتَكَبُوهُ فِي حِلِّ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - هَاهُنَا تَكَلُّفٌ بَارِدٌ وَتَعَسُّفٌ شَارِدٌ، حَيْثُ جَعَلُوا الْبَعْضَ الْغَيْرَ الْمُعَيَّنَ فِي الْكَلَامِ السَّابِقِ بَلْ الدَّاخِلَ فِي مُجَرَّدِ كُلِّيَّتِهِ مُشَارًا إلَيْهِ بِلَفْظِ هَذَا الَّذِي يُشَارُ بِهِ إلَى الْمَحْسُوسِ الْمُشَاهَدِ، أَوْ إلَى مَا هُوَ بِمَنْزِلَةِ الْمَحْسُوسِ الْمُشَاهَدِ. ثُمَّ إنَّ هَاهُنَا لَمَنْدُوحَةٌ عَنْ ذَلِكَ بِحَمْلِ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَلَى مَعْنًى ظَاهِرٍ مِنْهُ، وَهُوَ أَنَّ هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ صَرِيحًا فِيمَا مَرَّ آنِفًا مِنْ قَوْلِنَا وَتَجُوزُ الْوَكَالَةُ بِالْخُصُومَةِ فِي سَائِرِ الْحُقُوقِ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
(وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لَا تَجُوزُ الْوَكَالَةُ بِإِثْبَاتِ الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ بِإِقَامَةِ الشُّهُودِ أَيْضًا) أَيْ قَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لَا تَجُوزُ الْوَكَالَةُ بِالْخُصُومَةِ فِي بَعْضٍ مِنْ تِلْكَ الْحُقُوقِ وَهُوَ إثْبَاتُ الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ أَيْضًا: أَيْ كَمَا لَا تَجُوزُ الْوَكَالَةُ بِإِيفَاءِ الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ وَاسْتِيفَائِهَا بِالِاتِّفَاقِ. (وَقَوْلُ مُحَمَّدٍ مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى، وَقِيلَ مَعَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -) يَعْنِي أَنَّ قَوْلَ مُحَمَّدٍ مُضْطَرِبٌ يُذْكَرُ تَارَةً مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ وَتَارَةً مَعَ أَبِي يُوسُفَ، وَلَكِنَّ الظَّاهِرَ مِنْ تَحْرِيرِ الْمُصَنِّفِ تَرْجِيحُ الْأَوَّلِ كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى الْفَطِنِ. قَالَ فِي الْكَافِي بَعْدَ قَوْلِهِ وَقَوْلُ مُحَمَّدٍ مُضْطَرِبٌ: وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ (وَقِيلَ هَذَا الِاخْتِلَافُ) بَيْنَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ (فِي غَيْبَتِهِ) أَيْ