الْمَخْلُوقِ وَصِفَةُ الْحَقِّ أَفْضَلُ مِنْ صِفَةِ الْخَلْقِ فَقَدِ اسْتَحْسَنَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الْكِبَارِ وَفِيهِ نَظَرٌ لِمَا قَدَّمْتُهُ أَوَّلَ الْبَابِ وَيَظْهَرُ مِنْهُ أَنَّ هَذَا لَا يَدْخُلُ فِي أَصْلِ النِّزَاعِ إِذْ لَيْسَ هُوَ فِي ذَاتِ الصِّفَتَيْنِ وَإِنَّمَا هُوَ فِي عَوَارِضِهِمَا وَبَيَّنَ بَعْضُ مَنْ فَضَّلَ الْغَنِيَّ عَلَى الْفَقِيرِ كَالطَّبَرِيِّ جِهَتَهُ بِطَرِيقٍ أُخْرَى فَقَالَ لَا شَكَّ أَنَّ مِحْنَةَ الصَّابِرِ أَشَدُّ مِنْ مِحْنَةِ الشَّاكِرِ غَيْرَ أَنِّي أَقُولُ كَمَا قَالَ مُطَرِّفُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ لَأَنْ أُعَافَى فَأَشْكُرَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أُبْتَلَى فَأَصْبِرَ قُلْتُ وَكَأَنَّ السَّبَبَ فِيهِ مَا جُبِلَ عَلَيْهِ طَبْعُ الْآدَمِيِّ مِنْ قِلَّةِ الصَّبْرِ وَلِهَذَا يُوجَدُ مَنْ يَقُومُ بِحَسَبِ الِاسْتِطَاعَةِ بِحَقِّ الصَّبْرِ أَقَلَّ مِمَّنْ يَقُومُ بِحَقِّ الشُّكْرِ بِحَسَبِ الِاسْتِطَاعَةِ وَقَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ فِيمَا وُجِدَ بِخَطِّ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَرْزُوقٍ كَلَامُ النَّاسِ فِي أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ مُخْتَلِفٌ فَمِنْهُمْ مَنْ فَضَّلَ الْفَقْرَ وَمِنْهُمْ مَنْ فَضَّلَ الْغِنَى وَمِنْهُمْ مَنْ فَضَّلَ الْكَفَافَ وَكُلُّ ذَلِكَ خَارِجٌ عَنْ مَحَلِّ الْخِلَافِ وَهُوَ أَيُّ الْحَالَيْنِ أَفْضَلُ عِنْدَ اللَّهِ لِلْعَبْدِ حَتَّى يَتَكَسَّبَ ذَلِكَ وَيَتَخَلَّقَ بِهِ هَلِ التَّقَلُّلُ مِنَ الْمَالِ أَفْضَلُ لِيَتَفَرَّغَ قَلْبُهُ مِنَ الشَّوَاغِلِ وَيَنَالَ لَذَّةَ الْمُنَاجَاةِ وَلَا يَنْهَمِكَ فِي الِاكْتِسَابِ لِيَسْتَرِيحَ مِنْ طُولِ الْحِسَابِ أَوِ التَّشَاغُلُ بِاكْتِسَابِ الْمَالِ أَفْضَلُ لِيَسْتَكْثِرَ بِهِ مِنَ التَّقَرُّبِ بِالْبِرِّ وَالصِّلَةِ وَالصَّدَقَةِ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ النَّفْعِ الْمُتَعَدِّي قَالَ وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَالْأَفْضَلُ مَا اخْتَارَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجُمْهُورُ أَصْحَابِهِ مِنَ التَّقَلُّلِ فِي الدُّنْيَا وَالْبُعْدِ عَنْ زَهَرَاتِهَا وَيَبْقَى النَّظَرُ فِيمَنْ حَصَلَ لَهُ شَيْءٌ مِنَ الدُّنْيَا بِغَيْرِ تَكَسُّبٍ مِنْهُ كَالْمِيرَاثِ وَسَهْمِ الْغَنِيمَةِ هَلِ الْأَفْضَلُ أَنْ يُبَادِرَ إِلَى إِخْرَاجِهِ فِي وُجُوهِ الْبِرِّ حَتَّى لَا يَبْقَى مِنْهُ شَيْءٌ أَوْ يَتَشَاغَلَ بِتَثْمِيرِهِ لِيَسْتَكْثِرَ مِنْ نَفْعِهِ الْمُتَعَدِّي قَالَ وَهُوَ عَلَى الْقِسْمَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ قُلْتُ وَمُقْتَضَى ذَلِكَ أَنْ يَبْذُلَ إِلَى أَنْ يَبْقَى فِي حَالَة الْكَفَافِ وَلَا يَضُرُّهُ مَا يَتَجَدَّدُ مِنْ ذَلِكَ إِذَا سَلَكَ هَذِهِ الطَّرِيقَةَ وَدَعْوَى أَنَّ جُمْهُورَ الصَّحَابَةِ كَانُوا عَلَى التَّقَلُّلِ وَالزُّهْدِ مَمْنُوعَةٌ بِالْمَشْهُورِ مِنْ أَحْوَالِهِمْ فَإِنَّهُمْ كَانُوا عَلَى قِسْمَيْنِ بَعْدَ أَنْ فُتِحَتْ عَلَيْهِمُ الْفُتُوحُ فَمِنْهُمْ مَنْ أَبْقَى مَا بِيَدِهِ مَعَ التَّقَرُّبِ إِلَى رَبِّهِ بِالْبِرِّ وَالصِّلَةِ وَالْمُوَاسَاةِ مَعَ الِاتِّصَافِ بِغِنَى النَّفْسِ وَمِنْهُمْ مَنِ اسْتَمَرَّ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ قَبْلَ ذَلِكَ فَكَانَ لَا يُبْقِي شَيْئًا مِمَّا فُتِحَ عَلَيْهِ بِهِ وَهُمْ قَلِيلٌ بِالنِّسْبَةِ لِلطَّائِفَةِ الْأُخْرَى وَمَنْ تَبَحَّرَ فِي سِيَرِ السَّلَفِ عَلِمَ صِحَّةَ ذَلِكَ فَأَخْبَارُهُمْ فِي ذَلِكَ لَا تُحْصَى كَثْرَةً وَحَدِيثُ خَبَّابٍ فِي الْبَابِ شَاهِدٌ لِذَلِكَ وَالْأَدِلَّةُ الْوَارِدَةُ فِي فَضْلِ كُلٍّ مِنَ الطَّائِفَتَيْنِ كَثِيرَةٌ فَمِنَ الشِّقِّ الْأَوَّلِ بَعْضُ أَحَادِيثِ الْبَابِ وَغَيْرِهَا وَمِنَ الشِّقِّ الثَّانِيَ حَدِيثُ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رَفَعَهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْغَنِيَّ التَّقِيَّ الْخَفِيَّ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَهُوَ دَالٌّ لِمَا قُلْتُهُ سَوَاءٌ حَمَلْنَا الْغِنَى فِيهِ عَلَى الْمَالِ أَوْ عَلَى غِنَى النَّفْسِ فَإِنَّهُ عَلَى الْأَوَّلِ ظَاهِرٌ وَعَلَى الثَّانِي يَتَنَاوَلُ الْقِسْمَيْنِ فَيَحَصُلُ الْمَطْلُوبُ وَالْمُرَادُ بِالتَّقِيِّ وَهُوَ بِالْمُثَنَّاةِ مَنْ يَتْرُكُ الْمَعَاصِيَ امْتِثَالًا لِلْمَأْمُورِ بِهِ وَاجْتِنَابًا لِلْمَنْهِيِّ عَنْهُ وَالْخَفِيُّ ذُكِرَ لِلتَّتْمِيمِ إِشَارَةً إِلَى تَرْكِ الرِّيَاءِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَمِنَ الْمَوَاضِعِ الَّتِي وَقَعَ فِيهَا التَّرَدُّدُ مَنْ لَا شَيْءَ لَهُ فَالْأَوْلَى فِي حَقِّهِ أَنْ يَتَكَسَّبَ لِلصَّوْنِ عَنْ ذُلِّ السُّؤَالِ أَوْ يَتْرُكَ وَيَنْتَظِرَ مَا يُفْتَحُ عَلَيْهِ بِغَيْرِ مَسْأَلَةٍ فَصَحَّ عَنْ أَحْمَدَ مَعَ مَا اشْتُهِرَ مِنْ زُهْدِهِ وَوَرَعِهِ أَنَّهُ قَالَ لِمَنْ سَأَلَهُ عَنْ ذَلِكَ الْزَمِ السُّوقَ وَقَالَ لِآخَرَ اسْتَغْنِ عَنِ النَّاسِ فَلَمْ أَرَ مِثْلَ الْغِنَى عَنْهُمْ وَقَالَ يَنْبَغِي لِلنَّاسِ كُلِّهِمْ أَنْ يَتَوَكَّلُوا عَلَى اللَّهِ وَأَنْ يُعَوِّدُوا أَنْفُسَهُمُ التَّكَسُّبَ وَمَنْ قَالَ بِتَرْكِ التَّكَسُّبِ فَهُوَ أَحْمَقُ يُرِيدُ تَعْطِيلَ الدُّنْيَا نَقَلَهُ عَنْهُ أَبُو بَكْرٍ الْمَرْوَزِيُّ وَقَالَ أُجْرَةُ التَّعْلِيمِ وَالتَّعَلُّمِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنَ الْجُلُوسِ لِانْتِظَارِ مَا فِي أَيْدِي النَّاسِ وَقَالَ أَيْضًا مَنْ جَلَسَ وَلَمْ يَحْتَرِفْ دَعَتْهُ نَفْسُهُ إِلَى مَا فِي أَيْدِي النَّاسِ وَأَسْنَدَ عَنْ عُمَرَ كَسْبٌ فِيهِ بَعْضُ الشَّيْءِ خَيْرٌ مِنَ الْحَاجَةِ إِلَى النَّاسِ وَأَسْنَدَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّهُ قَالَ عِنْدَ مَوْتِهِ وَتَرَكَ مَالًا اللَّهُمَّ إِنَّكَ تَعْلَمُ أَنِّي لَمْ أَجْمَعْهُ إِلَّا لِأَصُونَ بِهِ دِينِي وَعَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَأَبِي سُلَيْمَانَ الدَّارَانِيِّ وَنَحْوِهِمَا مِنَ السَّلَفِ نَحْوَهُ بَلْ نَقَلَهُ الْبَرْبَهَارِيُّ عَنِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وانه

طور بواسطة نورين ميديا © 2015