مَخْرَمَةَ فَهَؤُلَاءِ مِمَّنْ سَمِعَ مِنْهُمْ وَقَدْ أَدْرَكَ بِالسِّنِّ جَمَاعَةً أَجَلَّ مِنْ هَؤُلَاءِ كَعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ وَقَدْ جَزَمَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَخَافُونَ النِّفَاقَ فِي الْأَعْمَالِ وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ غَيْرِهِمْ خِلَافُ ذَلِكَ فَكَأَنَّهُ إِجْمَاعٌ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُؤْمِنَ قَدْ يَعْرِضُ عَلَيْهِ فِي عَمَلِهِ مَا يَشُوبُهُ مِمَّا يُخَالِفُ الْإِخْلَاصَ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ خَوْفِهِمْ مِنْ ذَلِكَ وُقُوعُهُ مِنْهُمْ بَلْ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الْمُبَالَغَةِ مِنْهُمْ فِي الْوَرَعِ وَالتَّقْوَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَقَالَ بن بَطَّالٍ إِنَّمَا خَافُوا لِأَنَّهُمْ طَالَتْ أَعْمَارُهُمْ حَتَّى رَأَوْا مِنَ التَّغَيُّرِ مَا لَمْ يَعْهَدُوهُ وَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَى إِنْكَارِهِ فَخَافُوا أَنْ يَكُونُوا دَاهَنُوا بِالسُّكُوتِ قَوْلُهُ مَا مِنْهُمْ أَحَدٌ يَقُولُ إِنَّهُ عَلَى إِيمَانِ جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ أَيْ لَا يَجْزِمُ أَحَدٌ مِنْهُمْ بِعَدَمِ عُرُوضِ النِّفَاقِ لَهُمْ كَمَا يُجْزَمُ بِذَلِكَ فِي إِيمَانِ جِبْرِيلِ وَفِي هَذَا إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْمَذْكُورِينَ كَانُوا قَائِلِينَ بِتَفَاوُتِ دَرَجَاتِ الْمُؤْمِنِينَ فِي الْإِيمَانِ خِلَافًا لِلْمُرْجِئَةِ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ إِيمَانَ الصِّدِّيقِينَ وَغَيْرِهِمْ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ وَقَدْ روى فِي معنى أثر بن أَبِي مُلَيْكَةَ حَدِيثٌ عَنْ عَائِشَةَ مَرْفُوعٌ رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ لَكِنَّ إِسْنَادَهُ ضَعِيفٌ قَوْلُهُ وَيُذْكَرُ عَنِ الْحَسَنِ هَذَا التَّعْلِيقُ وَصَلَهُ جَعْفَرٌ الْفِرْيَابِيُّ فِي كِتَابِ صِفَةِ الْمُنَافِقِ لَهُ مِنْ طُرُقٍ مُتَعَدِّدَةٍ بِأَلْفَاظٍ مُخْتَلِفَةٍ وَقَدْ يَسْتَشْكِلُ تَرْكُ الْبُخَارِيِّ الْجَزْمَ بِهِ مَعَ صِحَّتِهِ عَنْهُ وَذَلِكَ مَحْمُولٌ عَلَى قَاعِدَةٍ ذَكَرَهَا لِي شَيْخُنَا أَبُو الْفَضْلِ بْنُ الْحُسَيْنِ الْحَافِظُ رَحِمَهُ اللَّهُ وَهِيَ أَنَّ الْبُخَارِيَّ لَا يَخُصُّ صِيغَةَ التَّمْرِيضِ بِضَعْفِ الْإِسْنَادِ بَلْ إِذَا ذَكَرَ الْمَتْنَ بِالْمَعْنَى أَوِ اخْتَصَرَهُ أَتَى بِهَا أَيْضًا لِمَا عَلِمَ مِنَ الْخِلَافِ فِي ذَلِكَ فَهُنَا كَذَلِكَ وَقَدْ أَوْقَعَ اخْتِصَارُهُ لَهُ لِبَعْضِهِمُ الِاضْطِرَابَ فِي فَهْمِهِ فَقَالَ النَّوَوِيُّ مَا خَافَهُ إِلَّا مُؤْمِنٌ وَلَا أَمِنَهُ إِلَّا مُنَافِقٌ يَعْنِي اللَّهَ تَعَالَى قَالَ اللَّهُ تَعَالَى وَلمن خَافَ مقَام ربه جنتان وَقَالَ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الخاسرون وَكَذَا شَرحه بن التِّينِ وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ وَقَرَّرَهُ الْكِرْمَانِيُّ هَكَذَا فَقَالَ مَا خَافَهُ أَيْ مَا خَافَ مِنَ اللَّهِ فَحَذَفَ الْجَارَّ وَأَوْصَلَ الْفِعْلَ إِلَيْهِ قُلْتُ وَهَذَا الْكَلَامُ وَإِنْ كَانَ صَحِيحًا لَكِنَّهُ خِلَافُ مُرَادِ الْمُصَنِّفِ وَمَنْ نَقَلَ عَنْهُ وَالَّذِي أَوْقَعَهُمْ فِي هَذَا هُوَ الِاخْتِصَارُ وَإِلَّا فَسِيَاقُ كَلَامِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ يُبَيِّنُ أَنَّهُ إِنَّمَا أَرَادَ النِّفَاقَ فَلْنَذْكُرْهُ قَالَ جَعْفَرٌ الْفِرْيَابِيُّ حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ سُلَيْمَانَ عَنِ الْمُعَلَّى بْنِ زِيَادٍ سَمِعْتُ الْحَسَنَ يَحْلِفُ فِي هَذَا الْمَسْجِدِ بِاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ مَا مَضَى مُؤْمِنٌ قَطُّ وَلَا بَقِيَ إِلَّا وَهُوَ مِنَ النِّفَاقِ مُشْفِقٌ وَلَا مَضَى مُنَافِقٌ قَطُّ وَلَا بَقِيَ إِلَّا وَهُوَ مِنَ النِّفَاقِ آمِنٌ وَكَانَ يَقُولُ مَنْ لَمْ يَخَفِ النِّفَاقَ فَهُوَ مُنَافِقٌ وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ حَدَّثَنَا رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ حَدَّثَنَا هِشَامٌ سَمِعْتُ الْحَسَنَ يَقُولُ وَاللَّهِ مَا مَضَى مُؤْمِنٌ وَلَا بَقِيَ إِلَّا وَهُوَ يَخَافُ النِّفَاقَ وَمَا أَمِنَهُ إِلَّا مُنَافِق انْتهى وَهَذَا مُوَافق لأثر بن أَبِي مُلَيْكَةَ الَّذِي قَبْلَهُ وَهُوَ قَوْلُهُ كُلُّهُمْ يَخَافُ النِّفَاقَ عَلَى نَفْسِهِ وَالْخَوْفُ مِنَ اللَّهِ وَإِن كَانَ مَطْلُوبا مَحْمُودًا لَكِنَّ سِيَاقَ الْبَابِ فِي أَمْرٍ آخَرَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ وَمَا يُحَذَّرُ هُوَ بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَتَشْدِيدِ الذَّالِ الْمُعْجَمَةِ وَيُرْوَى بِتَخْفِيفِهَا وَمَا مَصْدَرِيَّةٌ وَالْجُمْلَةُ فِي مَحَلِّ جَرٍّ لِأَنَّهَا مَعْطُوفَةٌ عَلَى خَوْفٍ أَيْ بَابِ مَا يُحَذَّرُ وَفَصَلَ بَيْنَ التَّرْجَمَتَيْنِ بِالْآثَارِ الَّتِي ذَكَرَهَا لِتَعَلُّقِهَا بِالْأُولَى فَقَطْ وَأَمَّا الْحَدِيثَانِ فَالْأَوَّلُ مِنْهُمَا تَعَلَّقَ بِالثَّانِيَةِ وَالثَّانِي يَتَعَلَّقُ بِالْأُولَى عَلَى مَا سَنُوَضِّحُهُ فَفِيهِ لَفٌّ وَنَشْرٌ غَيْرُ مُرَتَّبٍ عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ يَوْمَ تبيض وُجُوه الْآيَةَ وَمُرَادُهُ أَيْضًا الرَّدُّ عَلَى الْمُرْجِئَةِ حَيْثُ قَالُوا لَا حَذَرَ مِنَ الْمَعَاصِي مَعَ حُصُولِ الْإِيمَانَ وَمَفْهُومُ الْآيَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا يَرُدُّ عَلَيْهِمْ لِأَنَّهُ تَعَالَى مَدَحَ مَنِ اسْتَغْفَرَ لِذَنْبِهِ وَلَمْ يُصِرَّ عَلَيْهِ فَمَفْهُومُهُ ذَمُّ مَنْ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ وَمِمَّا يَدْخُلُ فِي مَعْنَى التَّرْجَمَةِ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَقَوْلُهُ وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أول مرّة وَقَوْلُهُ تَعَالَى لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لبَعض أَن تحبط أَعمالكُم وَهَذِهِ الْآيَةُ أَدَلُّ عَلَى الْمُرَادِ مِمَّا قَبْلَهَا فَمَنْ أَصَرَّ عَلَى نِفَاقِ الْمَعْصِيَةِ خُشِيَ عَلَيْهِ أَنْ يُفْضِيَ بِهِ إِلَى