قَصْدِ التَّرْكِ وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ قَوْلَهُ التَّرْكُ فِعْلٌ مُخْتَلَفٌ فِيهِ وَمِنْ حَقِّ الْمُسْتَدِلِّ عَلَى الْمَانِعِ أَنْ يَأْتِيَ بِأَمْرٍ مُتَّفَقٍ عَلَيْهِ وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُ الثَّانِي فَلَا يُطَابِقُ الْمَوْرِدَ لِأَنَّ الْمَبْحُوثَ فِيهِ هَلْ تَلْزَمُ النِّيَّةُ فِي التُّرُوكِ بِحَيْثُ يَقَعُ الْعِقَابُ بِتَرْكِهَا وَالَّذِي أَوْرَدَهُ هَلْ يَحْصُلُ الثَّوَابُ بِدُونِهَا وَالتَّفَاوُتُ بَيْنَ الْمَقَامَيْنِ ظَاهِرٌ وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ التَّرْكَ الْمُجَرَّدَ لَا ثَوَابَ فِيهِ وَإِنَّمَا يَحْصُلُ الثَّوَابُ بِالْكَفِّ الَّذِي هُوَ فِعْلُ النَّفْسِ فَمَنْ لَمْ تَخْطُرِ الْمَعْصِيَةُ بِبَالِهِ أَصْلًا لَيْسَ كَمَنْ خَطَرَتْ فَكَفَّ نَفْسَهُ عَنْهَا خَوْفًا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى فَرَجَعَ الْحَالُ إِلَى أَنَّ الَّذِي يَحْتَاجُ إِلَى النِّيَّةِ هُوَ الْعَمَلُ بِجَمِيعِ وُجُوهِهِ لَا التَّرْكُ الْمُجَرَّدُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ تَنْبِيهٌ قَالَ الْكِرْمَانِيُّ إِذَا قُلْنَا إِنَّ تَقْدِيمَ الْخَبَرِ عَلَى الْمُبْتَدَأِ يُفِيدُ الْقَصْرَ فَفِي قَوْلِهِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى نَوْعَانِ مِنَ الْحَصْرِ قَصْرُ الْمُسْنَدِ عَلَى الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ إِذِ الْمُرَادُ إِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَاهُ وَالتَّقْدِيمُ الْمَذْكُورُ قَوْلُهُ فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا كَذَا وَقَعَ فِي جَمِيعِ الْأُصُولِ الَّتِي اتَّصَلَتْ لَنَا عَنِ الْبُخَارِيِّ بِحَذْفِ أَحَدِ وَجْهَيِ التَّقْسِيمِ وَهُوَ قَوْلُهُ فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَخْ قَالَ الْخَطَّابِيُّ وَقَعَ هَذَا الْحَدِيثُ فِي رِوَايَتِنَا وَجَمِيعِ نُسَخِ أَصْحَابِنَا مَخْرُومًا قَدْ ذَهَبَ شَطْرُهُ وَلَسْتُ أَدْرِي كَيْفَ وَقَعَ هَذَا الْإِغْفَالُ وَمِنْ جِهَةِ مَنْ عَرَضَ مِنْ رُوَاتِهِ فَقَدْ ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ غَيْرِ طَرِيقِ الْحُمَيْدِيِّ مُسْتَوْفًى وَقَدْ رَوَاهُ لَنَا الْأَثْبَاتُ مِنْ طَرِيقِ الْحُمَيْدِيِّ تَامًّا وَنَقَلَ بن التِّينِ كَلَامَ الْخَطَّابِيِّ مُخْتَصَرًا وَفُهِمَ مِنْ قَوْلِهِ مَخْرُومًا أَنَّهُ قَدْ يُرِيدُ أَنَّ فِي السَّنَدِ انْقِطَاعًا فَقَالَ مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ لِأَنَّ الْبُخَارِيَّ لَمْ يَلْقَ الْحُمَيْدِيَّ وَهُوَ مِمَّا يُتَعَجَّبُ مِنْ إِطْلَاقِهِ مَعَ قَوْلِ الْبُخَارِيِّ حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ وَتَكْرَارُ ذَلِكَ مِنْهُ فِي هَذَا الْكِتَابِ وَجَزَمَ كُلُّ مَنْ تَرْجَمَهُ بِأَنَّ الْحُمَيْدِيَّ مِنْ شُيُوخِهِ فِي الْفِقْه والْحَدِيث وَقَالَ بن الْعَرَبِيِّ فِي مَشْيَخَتِهِ لَا عُذْرَ لِلْبُخَارِيِّ فِي إِسْقَاطِهِ لِأَنَّ الْحُمَيْدِيَّ شَيْخُهُ فِيهِ قَدْ رَوَاهُ فِي مُسْنَدِهِ عَلَى التَّمَامِ قَالَ وَذَكَرَ قَوْمٌ أَنَّهُ لَعَلَّهُ اسْتَمْلَاهُ مِنْ حِفْظِ الْحُمَيْدِيِّ فَحَدَّثَهُ هَكَذَا فَحَدَّثَ عَنْهُ كَمَا سَمِعَ أَوْ حَدَّثَهُ بِهِ تَامًّا فَسَقَطَ مِنْ حِفْظِ الْبُخَارِيِّ قَالَ وَهُوَ أَمْرٌ مُسْتَبْعَدٌ جِدًّا عِنْدَ مَنِ اطَّلَعَ عَلَى أَحْوَالِ الْقَوْمِ وَقَالَ الدَّاوُدِيُّ الشَّارِحُ الْإِسْقَاطُ فِيهِ مِنَ الْبُخَارِيِّ فَوُجُودُهُ فِي رِوَايَةِ شَيْخِهِ وَشَيْخِ شَيْخِهِ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ انْتَهَى وَقَدْ رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ بِشْرِ بْنِ مُوسَى وَأَبِي إِسْمَاعِيلَ التِّرْمِذِيِّ وَغَيْرِ وَاحِدٍ عَنِ الْحُمَيْدِيِّ تَامًّا وَهُوَ فِي مُصَنَّفِ قَاسِمِ بْنِ أَصْبَغَ وَمُسْتَخْرَجَيْ أبي نعيم وَصَحِيحِ أَبِي عَوَانَةَ مِنْ طَرِيقِ الْحُمَيْدِيِّ فَإِنْ كَانَ الْإِسْقَاطُ مِنْ غَيْرِ الْبُخَارِيِّ فَقَدْ يُقَالُ لِمَ اخْتَارَ الِابْتِدَاءَ بِهَذَا السِّيَاقِ النَّاقِصِ وَالْجَوَابُ قَدْ تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ وَأَنَّهُ اخْتَارَ الْحُمَيْدِيَّ لِكَوْنِهِ أَجَلَّ مَشَايِخِهِ الْمَكِّيِّينَ إِلَى آخِرِ مَا تَقَدَّمَ فِي ذَلِكَ مِنَ الْمُنَاسَبَةِ وَإِنْ كَانَ الْإِسْقَاطُ مِنْهُ فَالْجَوَابُ مَا قَالَهُ أَبُو مُحَمَّدٍ عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ سَعِيدٍ الْحَافِظُ فِي أَجْوِبَةٍ لَهُ عَلَى الْبُخَارِيِّ إِنَّ أَحْسَنَ مَا يُجَابُ بِهِ هُنَا أَنْ يُقَالَ لَعَلَّ الْبُخَارِيَّ قَصَدَ أَنْ يَجْعَلَ لِكِتَابِهِ صَدْرًا يَسْتَفْتِحُ بِهِ عَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ مِنِ اسْتِفْتَاحِ كُتُبِهِمْ بِالْخُطَبِ الْمُتَضَمِّنَةِ لِمَعَانِي مَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ مِنَ التَّأْلِيفِ فَكَأَنَّهُ ابْتَدَأَ كِتَابَهُ بِنِيَّةٍ رَدَّ عِلْمَهَا إِلَى اللَّهِ فَإِنْ عَلِمَ مِنْهُ أَنَّهُ أَرَادَ الدُّنْيَا أَوْ عَرَضَ إِلَى شَيْءٍ مِنْ مَعَانِيهَا فَسَيَجْزِيهِ بِنِيَّتِهِ وَنَكَبَ عَنْ أَحَدِ وَجْهَيِ التَّقْسِيمِ مُجَانَبَةً لِلتَّزْكِيَةِ الَّتِي لَا يُنَاسِبُ ذِكْرُهَا فِي ذَلِكَ الْمَقَامِ انْتَهَى مُلَخَّصًا وَحَاصِلُهُ أَنَّ الْجُمْلَةَ الْمَحْذُوفَةَ تُشْعِرُ بِالْقُرْبَةِ الْمَحْضَةِ وَالْجُمْلَةَ الْمُبْقَاةَ تَحْتَمِلُ التَّرَدُّدَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ مَا قَصده يحصل الْقرْبَة أَولا فَلَمَّا كَانَ الْمُصَنِّفُ كَالْمُخْبِرِ عَنْ حَالِ نَفْسِهِ فِي تَصْنِيفِهِ هَذَا بِعِبَارَةِ هَذَا الْحَدِيثِ حَذَفَ الْجُمْلَةَ الْمُشْعِرَةَ بِالْقُرْبَةِ الْمَحْضَةِ فِرَارًا مِنَ التَّزْكِيَةِ وَبَقِي الْجُمْلَةُ الْمُتَرَدِّدَةُ الْمُحْتَمِلَةُ تَفْوِيضًا لِلْأَمْرِ إِلَى رَبِّهِ الْمُطَّلِعِ عَلَى سَرِيرَتِهِ الْمُجَازِي لَهُ بِمُقْتَضَى نِيَّتِهِ وَلَمَّا كَانَتْ عَادَةُ الْمُصَنِّفِينَ أَنْ يُضَمِّنُوا الْخُطَبَ اصْطِلَاحَهُمْ فِي مَذَاهِبِهِمْ وَاخْتِيَارَاتِهِمْ وَكَانَ مِنْ رَأْيِ الْمُصَنِّفِ جَوَازُ اخْتِصَارِ الْحَدِيثِ وَالرِّوَايَةِ بِالْمَعْنَى وَالتَّدْقِيقُ فِي الِاسْتِنْبَاطِ وَإِيثَارُ الْأَغْمَضِ عَلَى الْأَجْلَى وَتَرْجِيحُ الْإِسْنَادِ الْوَارِدِ بِالصِّيَغِ الْمُصَرِّحَةِ بِالسَّمَاعِ عَلَى غَيْرِهِ اسْتَعْمَلَ جَمِيعَ ذَلِكَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ بِعِبَارَةِ هَذَا الْحَدِيثِ مَتْنًا وَإِسْنَادًا وَقَدْ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ فِي بَابِ الْهِجْرَةِ تَأَخُّرُ قَوْلِهِ فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ عَنْ قَوْلِهِ فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا فَيُحْتَمَلُ أَنْ