والذي يصلح أن يستدل به على عدم العصمة لغير النبي -صلى الله عليه وسلم- هو اتفاق أهل العلم على أن كل أحدٍ يؤخذ من قوله ويترك إلا النبي -صلى الله عليه وسلم- وهناك أدلةٌ أخرى ليس هذا مجال الحديث عن العصمة، فالبحث فيها طويل متشعب.
سابعاً: قلت في ختام إيرادك -وفقني الله وإياك للحق-: "لماذا لا يحاسب من خاض في دماء الآلاف"؟!.
وأنا أسألك -وفقك الله-: من هو الذي تريده أن يحاسب الصحابة في الذين شاركوا في تلك الفتنة؟!.
ولعل قصدك -في كلامك هذا-: لماذا لا ينتقد من شارك في القتال؟ ولماذا لا يبين خطأه؟!
وما هذا الكلام -الذي تقدم- إلا جواب عن هذا السؤال، وأجزم أنها إنما هي إشارات فقط، أرجو أن تكون كافية في إيضاح الحق، وإلا فإن المسألة كتب فيها كتب، وسطرت فيها مجلدات، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
وأختم جوابي بأمرين:
الأول: كما أن الإنسان يشكر على بحثه عن الحق، فإنه يشكر أكثر ويغبط أكثر وأكثر، ويسلم دينه أكثر وأكثر حينما يعيش ويموت وقلبه سليم على إخوانه المسلمين، فضلاً عن أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم- حملةِ الشريعة، ومبلغي السنة لبقية الأمة -رضي الله عنهم وأرضاهم- وجزاهم عن الإسلام وأهله خير الجزاء-.
والله العظيم لن يسلم دين المرء، ولن يرتاح باله إلا بهذا المسلك، وتجارب إخواننا الذين تابوا من هذا المسلك الوخيم -أعني: سب الصحابة كالشيخين، أو معاوية أو عائشة- أكبر شاهد على ذلك، فاسألهم تجد عندهم الخبر اليقين.
واعلم -بارك الله فيك- أن القدح في خير القرون الذين صحبوا الرسول -صلى الله عليه وسلم- يجرُّ إلى القدح في الرسول عليه الصلاة والسلام، كما قال الإمام مالك -وغيره من أئمة العلم-: هؤلاء طعنوا في أصحاب رسول الله، وإنما طعنوا في أصحابه؛ ليقول القائل: رجلُ سوء كان له أصحاب سوء، ولو كان رجلاً صالحاً؛ لكان أصحابه صالحين.
وبهذا المسلك -أعني مسلك التسليم وترك الخوض فيما جرى- تسلم من بدعتين قبيحتين:
الأول: بدعةِ الرافضة الذين أعملوا ألسنتهم في شتم الشيخين، وعثمان، ومعاوية وجمع غفير من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين.
الثاني: بدعةِ النواصب الذين يشتمون علياً وأشياعه -عياذاً بالله من ذلك-.
وأنا -يا رب- أبرأُ إليك من هؤلاء، وأسألك بما سألك به عبادك الصالحون -الذين جاءوا من بعد أصحاب نبيك -صلى الله عليه وسلم-: "رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ".
وأرجو أن تتأمل معي هذين الموقفين اللذين وقفهما اثنان من كبار أئمة هذه الأمة:
أما الموقف الأول: فهو موقف الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز عندما قيل له: ما تقول في أهل صفين؟ فقال: تلك دماء طهر الله يدي منها، فلا أحب أن أخضب لساني بها.
وأما الموقف الثاني: فهو موقف الإمام أحمد، حينما قال: إن علياً كان الأحق بالأمر، وكانت طاعته واجبة، فأورد عليه بعضهم فقال: إذا قلت كان إماماً واجبَ الطاعة، ففي ذلك طعن على طلحة والزبير، حيث لم يطيعاه، بل قاتلاه! فقال لهم الإمام أحمد: إني لست من حربهم في شيء!