فإن المذهب الحنفي من المذاهب المعتبرة والمعتمدة عند أهل العلم، وهو أول المذاهب الأربعة من حيث السبق الزمني، ومؤسس هذا المذهب هو أبو حنيفة النعمان بن ثابت المولود سنة 80هـ، المتوفى سنة 150هـ، وهو إمام من أئمة الإسلام مشهود له بالعلم والتقوى والورع، بلغ في الفقه منزلة عالية، قال عنه الإمام الشافعي: (الناس عيال في الفقه على أبي حنيفة) ، وما زال علماء هذا المذهب وأئمته يتعاقبون على تقريره ونشره ورفع رايته، وتدريس كتبه ومصنفاته على اختلاف العصور والأزمان إلى يومنا هذا، ومع شهادة العلماء لهذا المذهب وأئمته بالعلم والصلاح، إلا أن بعض أهل العلم قد انتقد هذا المذهب، ونسب إليه عدم الاهتمام بالحديث والاعتماد على الرأي، وهذا الانتقاد لم يكن وليد العصر الحاضر- كما يشير السائل- بل كان من مئات السنين، ومن ذلك ما قاله عياض (ت: 544هـ) في حق الإمام أبي حنيفة: وهو ممن سلم له حسن الاعتبار وتدقيق النظر والقياس، وجودة الفقه والإمامة فيه، لكن ليس له إمامة في الحديث، ولا استقلال بعلمه، ولا يوجد له في أكثر المصنفات الحديثية ذكر، ولا أخرج له أهل الصحيحين منه ولو حرفاً، وأكثر ما ينتقده المنتقدون على الإمام أبي حنيفة عدم أخذه بالحديث واستناده إلى الرأي، بل إن بعضهم نسب إليه أنه كان يرد الأحاديث الصحيحة كما نقله الخطيب البغدادي (ت: 463هـ) ، إلا أن هذه الانتقادات قد تصدى لها بعض الباحثين وبينوا عدم صحتها، وقرروا أن الإمام أبا حنيفة كان يأخذ بالحديث إذا صح عنده، واستدلوا على ذلك بروايات منقولة عن الإمام أبي حنيفة، ومنها قوله عن نفسه: (إذا جاء الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- لم نحل عنه إلى غيره، وأخذنا به) ، وقوله عندما سئل عما يلبس المحرم إذا لم يجد الإزار، حيث قيل له: أتخالف رسول الله - صلى الله عليه وسلم-؟ قال: لعن الله من يخالف رسول الله - صلى الله عليه وسلم- به أكرمنا الله، وبه استنقذنا، ومما يدل على أن الإمام أبا حنيفة كان يأخذ بالحديث إذا صح عنده ما قاله تلميذه زفر: (لا تلتفتوا إلى كلام المخالفين، فإن أبا حنيفة وأصحابنا لم يقولوا في مسألة إلا من الكتاب والسنة والأقاويل الصحيحة، ثم قاسوا بعد عليها) ، وما قاله أبو يوسف أكبر أصحاب الإمام أبي حنيفة: (ما رأيت أحداً أعلم بتفسير الحديث ومواضع النكت التي فيه من أبي حنيفة، وكان أبصر بالحديث الصحيح مني) ، وعموماً فإن الإمام أبا حنيفة كغيره من أئمة الإسلام كان يأخذ بالحديث إذا رآه صالحاً للاحتجاج به، ولا يتصور أنه كان يتركه إلى غيره ويعرض عنه، وإذا رأينا أن الإمام أبا حنيفة أو غيره من الأئمة قال قولاً يخالف حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم- فإننا نعتذر له بأنه لم يطلع على الحديث، أو لم يبلغه أو نحو ذلك، لا سيما وأن السنة لم تدون في عصر الإمام أبي حنيفة كما دونت في عصر من بعده.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015