وبالنسبة لإنكار أولئك الإخوة - وفقهم الله للخير- يمكن أن يسألوا عنه: ما سببه؟ وما دليلهم عليه؟ ويقال ينبغي لمن أراد أن يصف الحكم على العمل بالبدعة أن يستوعب جميع ملابسات الموضوع من حيث الزمان والمكان والحال والفاعل وغير ذلك، وأن يكون هذا الحكم صادراً ممن عرف عنه العلم، لأنني لاحظت من خلال كثير من الأسئلة التي ترد من البلاد الغربية الاعتراض بهذا الأمر (التبديع) على أمور لا تستحق ذلك عند أهل العلم، مع أنني أعلم أن الدافع لأولئك الغيرة على السنة، ولكن ذلك لا يكفي، بل لا بد مع الغيرة والعاطفة الإيمانية من علم وبصيرة نافذة، ليكون الحكم أقرب إلى الصواب. والحكم بالتبديع ليس بالأمر الهين، فليتق الله من يطلقه، والحكم على الشيء بأنه بدعة أمر يجب التأني فيه والتحقق منه وعدم العجلة، فكم زلت في هذا الباب أقدام، وترتب على ذلك من تمزيق صفوف المسلمين بعد أن كانت مجتمعة.
إذا تقرر هذا أيها المحب فإنه يقال لأولئك الإخوة: المسلم اللبيب يدرك أن اجتماع الصف ووحدة كلمة المسلمين من المقاصد العظيمة، والواجبات الكبيرة، وفي الشرع يقول سبحانه: "شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ" [الشورى: من الآية13] ، وليس من الحكمة ولا من الشرع في شيء أن يقدم المسنون على الواجب، أو تتفرق الكلمة لأجل مسألة محتملة، يقول شيخ الإسلام بن تيمية- رحمه الله - كما في مجموع الفتاوى (22/407) لما تكلم عن مسألة الجهر بالبسملة في الصلاة: (واستحب للرجل أن يقصد إلى تأليف القلوب بترك هذه المستحبات، لأن مصلحة التأليف في الدين أعظم من مصلحة فعل مثل هذا، كما ترك النبي - صلى الله عليه وسلم- تغيير بناء البيت لما في إبقائه من تأليف القلوب، وكما أنكر ابن مسعود على عثمان -رضي الله عنهما- إتمام الصلاة في السفر ثم صلى خلفه متماً، وقال: "الخلاف شر") أ. هـ.
وقال في موضع آخر (22/437) : (ويسوغ أيضاً أن يترك الإنسان الأفضل لتأليف القلوب واجتماع الكلمة خوفاً من التنفير عما يصلح ... ) ثم ذكر المثالين السابقين في هدم الكعبة، وقصة ابن مسعود -رضي الله عنه-.
فأوصي الإخوة جميعاً أن يتعاهدوا هذا الأصل، وأن يسدوا باب التفرق، وأن لا يدعوا فرصة للفرقة التي قد تقع أسبابها أحياناً من بعض الغيورين، المعظمين للسنة، بحجة الاتباع، مع أن الحرص على جمع الكلمة ومنع أسباب الخلاف ما أمكن ذلك من أعظم آثار الاتباع، بل هذا من أصول الدين ومخالفة دين المشركين وأوصي أحبتي الكرام بوصية الله تعالى حيث يقول: "واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا" [آل عمران: 103] ، كما أوصي إخواني بضرورة الرجوع إلى أهل العلم إذا أشكل عليهم شيء، خاصة وأنكم في بلاد يرصد فيها الكفار كل ما يصدر عنكم، وما أعظم الرزية.