الجمع بين إيجاب حد الردة وآية "لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ"

المجيب سليمان بن عبد الله القصير

عضو هيئة التدريس بجامعة القصيم

أصول الفقه /التعارض والترجيح

التاريخ 1/6/1425هـ

السؤال

السلام عليكم.

وفقاً لحديث متفق على صحته: "لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث" وذكر منها المرتد"، ألا يكون ذلك مناقضاً لقوله تعالى: "لا إكراه في الدين"؟ أرجو بيان وجه التعارض. وجزاكم الله خيراً.

الجواب

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلَّم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فيظهر من السؤال أن السائل على معرفة، ويحتاج إلى بيان وتوضيح في الإجابة؛ ولذا سأبسط الجواب وأوضحه له إن شاء الله؛ فأقول:

ليس بين الآية والحديث تعارض - بحمد الله -؛فإن الحديث، وكذا الأحاديث الأخرى التي جاءت في قتل المرتد كحديث: "من بدَّل دينه فاقتلوه" رواه البخاري (3017) من حديث علي -رضي الله عنه- كلها في من كان مسلماً، وذاق حلاوة الإيمان، ثم ارتدَّ عنه- والعياذ بالله- إلى الكفر مختاراً له ومفضلاً له على الإيمان، وردته هنا وكفره تستلزم تنقصه لله ولرسوله -صلى الله عليه وسلم- ولدينه القويم، فلذا استحق القتل عقوبة له؛ فإن فعله هذا جريمة لا يعدلها جريمة. وقد نقل الإجماع على وجوب قتله ابن قدامة في (المغني9 /16) .

كما أن المفسدة التي تترتب على ردة المسلم عن دينه أعظم بكثير من مفسدة بقاء الكافر الأصلي على كفره.

أما الآية وهي قوله تعالى: "لا إكراه في الدين" [البقرة:256] ، فهي في الكافر الأصلي الذي لم يدخل الإسلام أصلاً، وقد جاء في تفسير هذه الآية قولان للمفسرين:

أحدهما: أنها منسوخة بآيات القتال، - فلا تكون معارضة للحديث - وعلى القول بنسخها فإنه يكره جميع الكفار على الإسلام؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- قد أكره العرب على دين الإسلام، ومن أبى منهم الدخول فيه أو بذل الجزية قاتله - وهذا هو الإكراه -، ومن أدلة هذا أيضاً: قول الله -تعالى-: "ستدعون إلى قوم أولي بأس شديد تقاتلونهم أو يسلمون" [الفتح: 16] ، وقوله تعالى: "يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم" [التوبة: 73] ، وقوله تعالى:"يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار" [التوبة: 123] .

وفي الحديث الصحيح الذي رواه البخاري (3010) عن أبي هريرة-رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "عجب الله من قومٍ يدخلون الجنة في السلاسل". يعني الأسارى الذين يقدم بهم بلاد الإسلام في الوثاق والقيود ثم بعد ذلك يسلمون فيدخلون الجنة وهذا القول ذهب إليه بعض المفسرين.

والقول الثاني: أنها محكمة غير منسوخة، وأنها نزلت في أهل الكتاب خاصة (اليهود والنصارى والمجوس، وهم من تؤخذ منهم الجزية) ، وأنهم لا يكرهون على الإسلام إذا بذلوا الجزية، وأما المشركون والكفار فلا يقبل منهم إلا الإسلام أو يقاتلون؛ لأنهم الذين نزل فيهم قوله تعالى: "يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين" [التوبة: 73] ، وهذا قول أكثر المفسرين منهم: سعيد بن جبير ومجاهد والشعبي وقتادة والحسن والضحاك، وهو قول عمر بن الخطاب-رضي الله عنه-، فقد روى زيد بن أسلم عن أبيه قال: سمعت عمر -رضي الله عنه- يقول لعجوز نصرانية: أسلمي أيتها العجوز تسلمي؛ إن الله بعث محمداً بالحق، قالت أنا عجوز كبيرة، والموت إلي قريب، فقال عمر-رضي الله عنه-: اللهم اشهد وتلا:" لا إكراه في الدين" [البقرة: 256] .

وجاء عن ابن عباس - رضي الله عنهما-: أن هذه الآية نزلت فيمن دخل اليهودية من أبناء الأنصار أنهم لا يكرهون على الإسلام. رواه أبو داود في سننه ح (2682) وهذا القول رجحه شيخ المفسرين ابن جرير الطبري.

وقال ابن حزم الظاهري - رحمه الله -: (وأما قول الله -تعالى-: "لا إكراه في الدين" [البقرة: 256] ، فلم يختلف أحد من الأمة كلها في أن هذه الآية ليست على ظاهرها؛ لأن الأمة مجمعة على إكراه المرتد عن دينه - يعني بالرجوع إلى الإسلام - ... الخ) .

وليس قول العلماء هنا بإكراه الكفار يشمل إكراه كل كافر على الدخول في الإسلام، بل المراد الكفار المحاربين الذين وقع بينهم وبين المسلمين قتال، أما من لم يقع بين المسلمين وبينهم قتال فلا يكرهون، وقد نص العلماء على الذمي والمعاهد والمستأمن - وهم كفار - أنهم لا يجوز إكراههم، قال ابن قدامة في (المغني 9 /30) : (الدليل على تحريم الإكراه قوله تعالى: "لا إكراه في الدين" [البقرة: 256] ، وأجمع أهل العلم على أن الذمي إذا أقام على ما عوهد عليه والمستأمن لا يجوز نقض عهده، ولا إكراهه على ما لم يلتزمه) . والله أعلم، وصلى الله وسلَّم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

وينظر للزيادة في هذا المراجع التالية:

1- تفسير ابن جرير 3/ 14.

2- تفسير ابن كثير 1/ 311.

3- تفسير القرطبي 3/ 279.

4- المحلى لابن حزم 9/ 225.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015