شهادة الكافر على المسلم

F أحمد هريدى.

ربيع الآخر 1388 هجرية - 20 يولية 1968 م

M 1- شهادة أهل الذمة جائزة على المسلمين فى السفر للضرورة بشرط عدم وجود مسلمين عند الحنابلة ويرى الإمامان مالك الشافعى عدم جواز شهادتهم مطلقا، لا على ذميين ولا على مسلمين، ويرى الإمام أبو حنيفة جواز شهادتهم على بعضهم فقط.

2- مذهب الظاهرية عدم جواز قبول شهادة الكافر أصلا إلا على الوصية وفى السفر ويحلف الكافر مع شهادته.

3- يرى الإمام ابن تيمية أن ما نقل عن الإمام أحمد من تعليل جواز هذه الشهادة وقبولها بالضرورة يدل على جوازها وقبولها فى كل ضرورة حضرا وسفرا

Q من السيد/.

قال أن سيدة رفعت دعوى تطليق للضرر على زوجها وهما مسلمان أمام قضاء الأحوال الشخصية فى الجمهورية العربية المتحدة، وأن وقائع القضية وحوادثها وأسباب طلب التطليق حدثت بين الزوجين أثناء إقامتهما بالخارج فى بلد غير إسلامى، وفى مكان لم يوجد فيه أحد من المسلمين أثناء جريان الحوادث ووقوع الأسباب، وأهل المكان جميعا والجيران من غير المسلمين وقد شهدوا الحوادث وعلموا الأسباب، ولم يقبل القضاء شهادة أحد من هؤلاء المحيطين العالمين بحقيقة أمور الزوجين وأحوالهما، وما جرى بينهما بحجة أنه لا ولاية لكافر على مسلم.

ويقول السائل هل يضيع الحق نتيجة لهذه الظروف.

وهل تقف الشريعة الإسلامية جامدة أمام هذا الوضع، ولا تجد حلا لمثل هذه المشكلة يخرج الناس من الضيق والحرج ويطمئنهم على حقوقهم ويحفظ عليهم مصالحهم

صلى الله عليه وسلمn المسالة على هذا الوضع لها جانبان جانب القضية المعروضة على القضاء، والتى يطلب فيهل حل يكفل تحقيق العدالة وصيانة حقوق الزوجية ومصالحها وجانب المشكلة الناشئة من عدم قبول شهادة غير المسلمين على المسلمين - أما الجانب الأول فإن قضاء الأحوال الشخصية فى الجمهورية العربية المتحدة مقيد بالنسبة لمسائل الأحوال الشخصية للمسلمين بما تقرره المادة 280 من المرسوم بقانون رقم 78 لسنة 1931 بلائحة ترتيب المحاكم الشرعية، والإجراءات المتعلقة بها، وهى تنص على مايأتى تصدر الأحكام طبقا للمدون فى هذه اللائحة ولأرجح الأقوال من مذهب أبى حنيفة، ماعدا الأحوال التى ينص فيها قانون المحاكم الشرعية على قواعد خاصة، فيجب فيها أن تصدر الأحكام طبقا لتلك القواعد وقد استبقى المشرع هذه المادة بنصها المذكور فى التنظيم القضائى الذى أعقب إلغاء المحاكم الشرعية، وإحالة المسائل التى كانت تفصل فيها إلى دوائر للأحوال الشخصية أنشئت بالمحاكم الوطنية، وبقى القضاء مقيدا بحكمها لا يملك أن يطبق غير الأحكام التى نصت عليها، وليس فى لائحة المحاكم الشرعية ولا فى القوانين التى صدرت لتلك المحاكم، ولا فى مذهب أبى حنيفة ما يجيز شهادة غير المسلمين على المسلمين، فلا يستطيع القضاء فى ظل هذا النظام أن يقبل هذه الشهادة فى موضوع القضية المعروضة وأما الجانب الثانى فإنا نطمئن السائل على أن الشريعة الإسلامية وهى التى عاشت قرونا متطاولة لم يتح لشريعة من الشرائع فى العالم كله أن تعيش مثلها، وفى هذا المدى الطويل طوفت فى الآفاق شرقا وغربا وشمالا وجنوبا وتقبلت فى جميع البيئات والمجتمعات، ولاقت مختلف العادات والتقاليد وعاصرت الرخاء والشدة، والسيادة والاستبعاد، والحضارة والتخلف وحكمت فى أزهى العصور وأرقى المجتمعات، وواجهت فى ذلك كله الأحداث والمشاكل والحاجات، فلم تقصر عن حاجة، ولم تضق بمشكلة ولا قعدت عن الوفاء بأى مطلب، ولا تخلفت بأهلها فى أى وقت، ولكن تخلف أهلها حين فرطوا فيها وتهاونوا فى الاستمساك بعروتها الوثقى - هذه الشريعة تفيض بالرحمة واليسر - وإليكم بيان آراء الفقهاء والعلماء المسلمين فى حكم شهادة غير المسلمين على المسلمين - قال الله تعالى {يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم إن أنتم ضربتم فى الأرض فأصابتكم مصيبة الموت تحبسونهما من بعد الصلاة فيقسمان بالله إن ارتبتم لا نشترى به ثمنا ولو كان ذا قربى ولا نكتم شهادة الله إنا إذا لمن الآثمين.

فإن عثر على أنهما استحقا إثما فآخران يقومان مقامهما من الذين استحق عليهم الأوليان فيقسمان بالله لشهادتنا أحق من شهادتهما وما اعتدينا إنا إذا لمن الظالمين.

ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها أو يخافون أن ترد أيمان بعد أيمانهم واتقوا الله واسمعوا والله لا يهدى القوم الفاسقين} المائدة 106، 107، 108، قال أبو عبد الله أحمد بن محمد الأنصارى القرطبى المالكى فى تفسيره الجامع لأحكام القرآن فى سبب نزول هذه الآيات لا أعلم خلافا أن هذه الآيات نزلت بسبب تميم الدارى وعدى بن براء - روى البخارى والدارقطنى وغيرهما عن ابن عباس قال كان تميم الدارى وعدى يختلفان إلى مكة للتجارة فخرج معهما فتى من بنى سهم فى بعض الروايات مولى لبنى سهم يقال له بديل بن أبى مريم بتجارة فتوفى بأرض ليس بها مسلم، فأوصى إليهما بأن يبلغا ما ترك أهله - فى بعض الروايات وكانا نصرانيين، وأن الموصى كتب وصيته ثم جعلها فى المتاع فدفعا تركته إلى أهله وحبسا جاما من فضة مخوصا بالذهب فاستحلفهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما كتمتا ولا اطلعتما، ثم وجد الجام بمكة.

فقالوا اشتريناه من عدى وتميم، فجاء رجلان من ورثة السهمى فحلفا أن هذا الجام للسهمى ولشهادتنا أحق من شهادتهما وما اعتدينا قال فخذوا الجام، وفيهم نزلت هذه الآيات - وقال فى تفسير الآيات.

وقد اختلف العلماء فى فهم قوله تعالى {ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم} على ثلاثة أقوال: الأول - أن الكاف والميم فى قوله سبحانه {منكم} ضمير للمسلمين وقوله أو آخران من غيركم للكافرين.

فعلى هذا تكون شهادة أهل الكتاب على المسلمين جائزة فى السفر إذا كانت بوصية، وهو الأشبه بسياق الآية مع ما تقرر من الأحاديث التى وردت فى أسباب نزول الآيات وهو قول ثلاثة من الصحابة الذين شاهدوا التنزيل.

أبى موسى الأشعرى وعبد الله بن قيس وعبد الله بن عباس - فمعنى الآية على هذا القول - أن الله تعالى أخبر أن حكمه فى الشهادة على الموصى إذا حضره الموت أن يكون شهادة عدلين، فإن كان فى سفر وهو الضرب فى الأرض ولم يكن معه أحد من المؤمنين فليشهد شاهدان ممن حضره من أهل الكفر، فإذا قدما وأديا الشهادة على وصيته حلفا بعد الشهادة أنهما ما كذبا وما بدلا وأن ما شهدا به حق، وما كتما فيه شهادة، وحكم بشهادتهما.

فإن عثر بعد ذلك على أنهما كذبا أو خانا ونحو هذا مما هو إثم - حلف رجلان من أولياء الموصى، وغرم الشاهدان ما ظهر عليهما - هذا معنى الآية على مذهب أبى موسى الأشعرى وسعيد بن المسيب ويحيى بن يعمر وسعيد بن جبير وأبى مجلز وشريح وعبيدة السلمانى وابن سيرين ومجاهد وقتادة والسدى وابن عباس وغيرهم وقال به من الفقهاء سفيان الثورى ومال إليه أبو عبيد القاسم ابن سلام لكثرة من قال به واختاره أحمد بن حنبل وقال شهادة أهل الذمة جائز على المسلمين فى السفر عند عدم المسلمين وكلهم يقولون منكم من المؤمنين ومعنى من غيركم يعنى الكفار والآية محكمة على مذهب أبى موسى وشريح وغيرهما.

القول الثانى - أن قوله تعالى {أو آخران من غيركم} منسوخ وهذا قول زيد بن أسلم والنخعى ومالك والشافعى وأبى حنيفة وغيرهم من الفقهاء، إلا أن أبا حنيفة خالفهم فقال تجوز شهادة الكفار بعضهم على بعض، ولا تجوز على المسلمين.

واحتج أصحاب هذا القول بقوله تعالى {ممن ترضون من الشهداء} وقوله {وأشهدوا ذوى عدل منكم} فهؤلاء زعموا أن آية الدين من آخر ما نزل، وأن فيها ممن ترضون من الشهداء فهو ناسخ لذلك.

ولم يكن الإسلام يومئذ إلا بالمدينة، فجازت شهادة أهل الكتاب.

والإسلام اليوم قد طبق الأرض فسقطت شهادة الكفار، وقد أجمع المسلمون على أن شهادة الفساق لا تجوز والكفار فساق فلا تجوز شهادتهم.

قال القرطبى قلت ما ذكرتموه صحيح إلا أنا نقول بموجبة وأن ذلك جائز فى شهادة أهل الذمة على المسلمين فى الوصية فى السفر خاصة للضرورة، بحيث لا يوجد مسلم، وأما مع وجود مسلم فلا.

ولم يأت ما ادعيتموه من النسخ عن أحد ممن شهدوا التنزيل.

وقد قال بالأول ثلاثة من الصحابة، وليس ذلك فى غيره، ومخالفة الصحابة إلى غيرهم ينفر عنه أهل العلم ويقوى هذا أن سورة المائدة من آخر القرآن نزولا حتى قال ابن عباس والحسن وغيرهما إنه لا منسوخ فيها وما ادعوه من النسخ لا يصح، فإن النسخ لابد فيه من إثبات الناسخ على وجه يتنافى الجمع بينهما مع تراخى الناسخ، ولا يمتنع اختلاف الحكم عن الضرورات ولأنه ربما كان الكافر ثقة عند المسلم ويرتضيه عند الضرورة فليس فيما قالوه ناسخ.

القول الثالث - أن الآية لا نسخ فيها.

قاله الزهرى والحسن وعكرمة ويكون معنى قوله تعالى {منكم} أى من عشيرتكم وقرابتكم، لأنهم أحفظ وأضبط وأبعد عن النسيان - ومعنى قوله {أو آخران من غيركم} أى من غير العشيرة والقرابة، وقد نقل القرطبى عن أبى جعفر التماس مناقشة هذا التفسير.

ثم قال على أنه قد عورض هذا القول بأن فى أول الآية {يا أيها الذين آمنوا} فالخطاب لجماعة المؤمنين فيكون قوله منكم من المؤمنين المخاطبين فى الآية وقوله من غيركم من غير المؤمنين ولم يجر للعشيرة ولا للقرابة ذكر مطلقا.

وقد روى الإمام البخارى فى صحيحه فى كتاب الوصايا.

الحديث الذى ذكرناه عن القرطبى فى أسباب نزول هذه الآيات من طريق محمد بن أبى القاسم عن عبد الملك ابن سعيد بن جبير عن عبد الله بن عباس معبرا عن سماعه بقوله، وقال لى على بن عبد الله حدثنا يحيى بن آدم حدثنا ابن أبى زائدة عن محمد ابن أبى القاسم عن عبد الملك بن سعيد بن جبير عن أبيه عن ابن عباس إلخ وجاء فى فتح البارى بشرح صحيح البخار للإمام الحافظ بن حجر العسقلانى الشافعى فى شرح هذا الحديث ما يأتى واستدل بهذا الحديث على جواز شهادة الكفار بناء على أن المراد بالغير فى قول الله تعالى {أو آخران من غيركم} الكفار - والمعنى منكم أى من أهل دينكم أو آخران من غيركم من غير أهل دينكم وخص جماعة القبول بأهل الكتاب وبالوصية وبفقد المسلم حينئذ.

منهم ابن عباس وأبو موسى الأشعرى وسعيد بن المسيب وشريح وابن سيرين والأوزاعى والثورى وأبو عبيد وأحمد وهؤلاء أخذوا بظاهر الآية، وقوى ذلك حديث الباب فإن سياقه مطابق لظاهر الآية.

وقيل المراد بالغير العشيرة. والمعنى منكم أى من عشيرتكم أو آخران من غيركم أى من غير عشيرتكم وهو قول الحسن.

وذهب جماعة من الأئمة إلى أن هذه الآية منسوخة وأن ناسخها قوله تعالى {ممن ترضون من الشهداء} واحتجوا بالإجماع على رد شهادة الفاسق، والكفر شر من الفاسق.

وأجاب الأولون بأن النسخ لا يثبت بالاحتمال، وأن الجمع بين الدليلين أولى من إلغاء أحدهما وبأن سورة المائدة محكمة.

وعن ابن عباس أن الآية نزلت فيمن مات مسافرا وليس عنده أحد من المسلمين فإن اتهما استحلفا أخرجه الطبرى بإسناد رجال ثقات وأنكر أحمد على من قال إن هذه الآية منسوخة وصح عن أبى موسى الأشعرى أنه عمل بذلك بعد النبى - صلى الله عليه وسلم - فقد روى أبو دواد بإسناد رجال ثقات عن الشعبى قال حضرت رجل من المسلمين الوفاة بدقوقا (ويقال دقوقاء بالمد وهى مدينة بالعراق بين أربل وبغداد) ولم يجد أحدا من المسلمين فأشهد رجلين من أهل الكتاب فقدما الكوفة بتركته ووصيته فأخبر الأشعرى فقال هذا لم يكن بعد الذى كان فى عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأحلفهما بعد العصر ما خانا ولا كذبا ولا كتما ولا بدلا وأمضى شهادتهما.

ورجحه الفخر الرازى وسبقه الطبرى لذلك لأن قوله تعالى {يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم} خطاب للمؤمنين فلما قال {أو آخران من غيركم} وصح أنه أراد غير المخاطبين تعين أنهما من غير المؤمنين وأيضا فجواز استشهاد المسلم ليس مشروطا بالسفر وأن أبا موسى حكم بذلك ولم ينكره أحد من الصحابة فكان حجة إلى أن قال وقد قبلت شهادة الكافر فى بعض المواضع كما فى الطب.

وجاء - فى كتاب أحكام القرآن فلإمام حجة الإسلام أبى بكر الجصاص الحنفى فى تفسير هذه الآيات - قد اختلفوا فى معنى الشهادة ههنا قال قائلون هى الشهادة على الوصية فى السفر واجازوا بها شهادة أهل الذمة على وصية المسلم فى السفر وروى الشعبى عن أبى موسى الأشعرى أن رجلا مسلما توفى بدقوقا ولم يجد أحدا من المسلمين يشهده على وصيته فأشهد رجلين من أهل الكتاب فأحلفهما أبو موسى بع العصر بالله ما خانا ولا كذبا ولا بدلا ولا كتما ولا غيرا.

وأنها لوصية الرجل وتركته، وأمضى أبو موسى شهادتهما وقال هذا أمر لم يكن بعد الذى كان فى عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذهب أبو موسى إلى أنها الشهادة على الوصية التى تثبت بها عند الحكام وأن هذا حكم ثابت غير منسوخ.

وروى مثله عن شريح وهو قول الثورى وابن أبى ليلى والأوزاعى وروى عن ابن عباس وسعيد بن المسيب وسعيد بن جبير وابن سيرين وعبيدة وشريح والشعبى.

وقال آخرون إن الشهادة هنا أيمان الوصية بالله إذا ارتاب الورثة بهما، وهو قول مجاهد مرغوب عنه، وإن كانت اليمين قد تسمى شهادة فى نحو قوله تعالى {فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله} النور 6، لأن الشهادة إذا أطلقت فهى الشهادة المتعارفة التى تقام عند الحكام كقوله تعالى {وأقيموا الشهادة لله} الطلاق 2، {واستشهدوا شهيدين من رجالكم} البقرة 282، {ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا} البقرة 282، {وأشهدوا ذوى عدل منكم} الطلاق 2، وكذلك ما هنا قوله تعالى {شهادة بينكم} وقوله تعالى {أو آخران من غيركم} الخطاب فيه للمؤمنين الموجه إليهم النداء فى صدر الآية {يا أيها الذين آمنوا} أى إن لم يوجد شاهدان من المؤمنين فآخران من غير المؤمنين، والتأويل بأن المراد من غير قبيلتكم لا معنى له، إذا لم يجر للقبيلة ذكر حتى ترجع إليه الكناية، فالكناية إنما ترجع إلى ظاهر مذكور فى الكلام أو معلوم بدلالة الحالة، فاقتضت الآية جواز شهادة أهل الذمة على وصية المسلم فى السفر وقد اختلف فى بقاء هذا الحكم ونسخه.

فذهب أبو موسى الأشعرى ومن ذكرنا من الفقهاء إلى أنه باق وثابت لم ينسخ، وروى عن إبراهيم النخعى أن الآية منسوخة نسختها وأشهدوا ذوى عدل منكم وروى ضمرة ابن جندب وعطية بن قيس قالا قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم (المائدة من آخر القرآن نزولا فأحلوا حلالها وحرموا حرامها) والآية تدل على جواز شهادة أهل الذمة على وصية المسلم فى السفر سواء أكان فى الوصية بيع أو إقرار بدين أو وصية بشئ أو هبة أو صدقة، إذ يشمل اسم الوصية ذلك كله إذا عقد فى المرض.

ثم قد روى أن آية الدين من آخر ما نزل من القرآن فهى ناسخة لحكم هذه الآية وهو جواز شهادة أهل الذمة على وصية المسلم فى السفر، لأن الخطاب فيها للمؤمنين.

وقد قيل فيها {واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء} البقرة 282، والكفار غير مرضيين فى الشهادة على المسلمين، وهى عامة فى السفر وغير السفر وفى الوصية وغيرها، فتكون ناسخة لحكم آية المائدة التى معنا - انتهى بتصرف.

وجاء فى كتاب الطرق الحكمية فلإمام المجتهد أبى عبد الله محمد بن أبى بكر الحنبلى المعروف بابن القيم - (أما المسألة الثانية وهى قبول شهادة الكفار على المسلمين فى السفر فقد دل عليها صريح القرآن وعمل بها الصحابة، وذهب إليها فقهاء الحديث - قال صالح بن أحمد قال أبى لا تجوز شهادة أهل الذمة إلا فى موضع فى السفر الذى قال الله تعالى فيه {أو آخران من غيركم إن أنتم ضربتم فى الأرض} فأجازها أبو موسى الأشعرى، وقد روى عن ابن عباس أو آخران من غيركم من أهل الكتاب وهذا موضع ضرورة، لأنه فى سفر ولا تجد من يشهد من المسلمين، وإنما جاءت فى هذا المعنى.

وقال إسماعيل بن سعيد الشالنجى سألت أحمد فذكر هذا المعنى.

قلت فإن كان ذلك على وصية المسلمين هل تجوز شهادتهم قال نعم إذا كان على الضرورة - قلت أليس يقال هذه الآية منسوخة قال من يقول وأنكر ذلك.

قال وهل يقول ذلك إلا إبراهيم وقال فى رواية ابن عبد الله تجوز شهادة النصرانى واليهودى فى الميراث على ما أجاز أبو موسى فى السفر وأحلفه وقال فى رواية أبى الحارث لا تجوز شهادة اليهودى والنصرانى فى شئ إلا فى الوصية فى السفر إذا لم يوجد غيرهم - قال الله تعالى {أو آخران من غيركم} فلا تجوز شهادتهم إلا فى هذا الموضع، وهذا مذهب قاضى العم والعدل شريح وقول سعيد بن المسيب وحكاه عن ابن عباس وأبى موسى الأشعرى) ثم ساق ابن القيم حديث قبول أبى موسى الأشعرى شهادة النصرانيين من أهل دقوقا على وصية المسلم فى السفر وحكمه بها، وحديث ابن عباس عن تميم الدارى فى سبب نزول الآية موضوع البحث والقول بهذه الآية هو قول جمهور السلف وقالت عائشة رضى الله عنها سورة المائدة آخر سورة نزلت فما وجدتم فيها حراما فحرموه، وصح عن ابن عباس أنه قال فى هذه الآية.

هذا لمن مات وعنده المسلمون فأمر الله أن يشهد فى وصيته عدلان من المسلمين ثم قال تعالى {أو آخران من غيركم إن أنتم ضربتم فى الأرض} فهذا لمن مات وليس عنده أحد من المسلمين فأمر الله عز وجل أن يشهد على وصيته رجلان من غير المسلمين وقد تقدم أن أبا موسى حكم بذلك، وقال سفيان الثورى عن أبى اسحق البيعى عن عمرو بن شرحبيل - ولم ينسخ من سورة المائدة شئ - وعن سعيد بن المسيب {أو آخران من غيركم} من أهل الكتاب وفى رواية ابن جبير ومجاهد ويحيى وابن سيرين فهؤلاء أئمة المسلمين أبو موسى الأشعرى وابن عباس وروى نحو ذلك عن على رضى الله عنه - ذكر ذلك أبو محمد بن حزم وذكره أبو يعلى عن ابن مسعود ولا مخالف لهم من الصحابة.

ومن التابعين عمرو بن شرحبيل وشريح وعبيدة والنخعى والشعبى والسعيدان وأبو مجلز وابن سيرين ويحيى بن يعمر، ومن تابعى التابعين كسفيان الثورى ويحيى بن حمزة والأوزاعى، وبعد هؤلاء كأبى عبيد وأحمد بن حنبل وجمهور فقهاء أهل الحديث، وهو قول جميع أهل الظاهر.

وخالفهم آخرون. ثم اختلفوا فى تخريج الآية على ثلاثة طرق أحدها أن المراد بقوله من غيركم من غير قبيلتكم.

روى ذلك عن الحسن والزهرى - والثانى أن الآية منسوخة وهذا مروى عن زيد بن أسلم وغيره.

والثالث - أن المراد بالشهادة فيها أيمان الوصى بالله تعالى للورثة لا الشهادة المعروفة، وساق ابن القيم المناقشة بين الآخذين بالآية والمؤولين لها احتجاجا وردا.

ثم قال فظهر أن القول بموجب هذه الآية هو الحق الذى لا نعدل عنه نصا وقياسا ومصلحة.

وبالله التوفيق - قال شيخنا رحمه الله (يعنى الإمام المجتهد شيخ الإسلام ابن تيمية وقول الإمام أحمد فى قبول شهادتهم فى هذا الموضع هو ضرورة يقتضى هذا التعليل قبولها فى كل ضرورة حضرا وسفرا وعلى هذا لو قيل يحلفون فى شهادة بعضهم على بعض كما يحلفون فى شهادتهم على المسلمين فى وصية السفر لكان منسوخها - ولو قيل تقبل شهادتهم مع ايمانهم فى كل شئ عدم فيه المسلمون لكان له وجه ويكون بدلا مطلقا - قال الشيخ ويؤيد هذا ما ذكره القاضى وغيره - محتجا به - وهو فى الناسخ والمنسوخ لأبى عبيد أن رجلا من المسلمين خرج فمر بقرية فمرض ومعه رجلان من المسلمين فدفع إليهما ماله ثم قال ادعوا لى من أشهده على ما قبضتماه فلم يجدا أحدا من المسلمين فى تلك القرية، فدعوا أناسا من اليهود والنصارى فأشهدهم على ما دفع إليهما وذكر الوصية، فانطلقوا إلى ابن مسعود فأمر اليهود والنصارى أن يحلفوا بالله لقد ترك من المال كذا وكذا، ولشهادتنا أحق من شهادة هذين المسلمين، ثم أمر أهل المتوفى أن يحلفوا أن شهادة اليهود والنصارى حق فحلفوا.

فأمرهم ابن مسعود أن يأخذوا من المسلمين ما شهد به اليهودى والنصرانى وذلك فى خلافة عثمان رضى الله عنه فهذه شهادة للميت على وصيته، وقد قضى بها ابن مسعود مع يمين الورثة لأنهم المدعون وقد ذكر القاضى هذا فى مسألة دعوى الأسير إسلاما فقال وقد قال الإمام أحمد فى السبى إذا ادعوا نسبا وأقاموا بينة من الكفار قبلت شهادتهم.

نص عليه فى رواية حنبل وصالح وإسحاق بن إبراهيم لأنه قد تتعذر البينة العادلة، ولم يجز ذلك فى رواية عبد الله وأبى طالب قال شيخنا رحمه الله تعالى فعلى هذا كل موضع ضرورة غير المنصوص فيه وفيه روايتان.

لكن التحليف ههنا لم يتعرضوا له، فيمكن أن يقال لأنه إنما يحلف حيث تكون شهادتهم بدلا كما فى مسألة الوصية بخلاف ما إذا كانوا أصولا.

والله أعلم - ويقول الإمام أبو محمد بن حزم الظاهرى إمام أهل الظاهر بالأندلس فى كتابه المحلى (لا يجوز أن يقبل كافر أصلا لا على كافر ولا على مسلم حاشا الوصية فى السفر فقط، فإنه يقبل فى ذلك مسلمان أو كافران من أى دين كانا، أو كافر وكافرتان، أو أربع كوافر، ويحلف الكفار ههنا مع شهادتهم بعد الصلاة لا نشترى به ثمنا ولو كان ذا قربى ولا نكتم شهادة الله إنا إذا لمن الآثمين - برهان ذلك قوله تعالى {يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا} الحجرات 6، والكافر فاسق فوجب أن لا تقبل.

وقال تعالى {يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم إن أنتم ضربتم فى الأرض} فوجب أخذ حكم الله كله.

وأن يستثنى الأخص من الأعم ليتوصل بذلك إلى طاعة الجميع) هذا جانب يسير من النصوص التى تزخر بها كتب الفقه والتفسير والحديث تبين آراء العلماء والفقهاء فى شهادة غير المسلمين على المسلمين، وتدل دلالة صريحة وقاطعة على أن كثيرا من الصحابة والتابعين وتابعيهم وفقهاء الأمصار والأئمة المجتهدين يرون جواز هذه الشهادة ويقبلونها فى القضاء ويحكمون بها، وإن كانوا يختلفون بعد ذلك فى النطاق والمسائل التى تقبل فيها هذه الشهادة.

وقد رأينا فيما ذكره الإمام القرطبى أنه لا مانع من اختلاف الحكم عند الضرورة وأنه يجوز أن يكون الكافر ثقة عند المسلم، ويرتضيه عند الضرورة، وهذا يشير إلى أن جواز شهادة غير المسلم على المسلم إنما هو للضرورة وفى حالة قيامها.

وفيما تقل عن ابن عباس ما يشير إلى ذلك أيضا وفيما نقل عن الإمام أحمد التصريح بأن جواز شهادة غير المسلمين على المسلمين هو ضرورة وقد نقل ابن القيم عن شيخه الإمام المجتهد ابن تيمية أنه قال إن ما نقل عن الإمام أحمد من تقليل جواز هذه الشهادة وقبولها للضرورة يدل على جوازها وقبولها فى كل ضرورة حضرا وسفرا وأنه لو قيل تقبل شهادتهم مع أيمانهم فى كل شئ عدم فيه المسلمون لكان له وجه وتكون بدلا مطلقا.

ومن ثم جرى فيها الحلف. وقد رأينا مما ذكرنا أن القائلين بعدم جواز قبول شهادة غير المسلمين على المسلمين فى أى مجال أو نطاق لم يبنوا جميعهم آراءهم على أساس أن الشهادة من باب الولاية، وأنه لا ولاية لكافر على مسلم وإنما بنى أكثرهم الرأي على معان أخرى تتصل بالشروط والمعانى التى اعتبروا توافرها أساسا لقبول الشهادة ولا نريد بما ذكرنا أن نستبيح حكما أو نقرر رأيا فى الموضوع.

وإنما نريد أن نبين أن فى آراء الفقهاء المسلمين ما فيه العلاج الحاسم لهذه المشكلة التى برزت فى حياة الناس، واستعصى على القضاء حلها فى ظل النظام القائم، وقد تتوالى الحوادث وتبدوا المشكلة فى صورة أو أخرى أشد تعقيدا وأكثر إلحاحا فى طلب الحل، وسيبقى القضاء عاجزا عن الحل وغير قادر على مواجهة طلبه مادام هذا الوضع قائما - وقد تضيع حقوق وتهدر مصالح - الأمر الذى لا يمكن قبوله والسكوت عليه.

ولقد كشف التطور الاجتماعى الذى أحدثته الثورة عن ضرورة إحداث تغيير جذرى وشامل فى الأوضاع والنظم والأحكام التى تسود حياة المجتمع، وقامت نهضة تشريعية شاملة تناولت بالتغيير والتبديل النظم والقوانين والأحكام القائمة فى جميع النواحى والجوانب والفروع.

وكان من نتيجة ذلك أن ألفت لجنة لوضع تشريع شامل مستمد من الشريعة الإسلامية، والفقه الإسلامى لتنظيم مسائل الأحوال الشخصية بفروعها المختلفة، وقامت اللجنة فعلا بوضع تشريع شامل اختارت أحكامه من أقوال الفقهاء المسلمين غير متقيدة برأى فقيه ولا بأرجح الأقوال فى مذهب فقيه، بل استهدفت علاج المشاكل التى لازمت التطور الاجتماعى العميق الشامل وكشف عنها التطبيق والعمل فى ظل النظام القائم.

وقدمت اللجنة المشروع إلى وزارة العدل، ولا يزال لدى الوزارة إلى الآن.

وحبذا لو أمكن أن يعاد المشروع إلى اللجنة لتعيد النظر فيه، وتعالج هذه المشكلة موضوع البحث، وما عسى أن يظهره البحث أو تتمخض عنه الحوادث من مشاكل أخرى تمس حياة الناس ومصالحهم.

وما توفيقى إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب

طور بواسطة نورين ميديا © 2015