فأهل ذلك الزمان قد غلب عليهم قصد قبور الأولياء والصالحين؛ للصلاة عندها، لاعتقاد أن للصلاة هناك مزية، وأنها أفضل من الصلاة في المساجد، ومع جماعة المسلمين، أو أن ذلك الولي يشفع في هذه الصلاة لتُقْبَل أو يضاعفَ ثوابها ونحو ذلك من الاعتقادات الفاسدة، ولا شك أن هذا تعظيم للمخلوق، ورفع لمنزلته إلى درجة لا يستحقها إلا الله.
فأما الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، فإننا نمجده ونحبه ونقدم محبته على الأنفس والأموال؛ فإنّ ذلك شرط لصحة الإيمان، لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده، ووالده والناس أجمعين"، ولكن لا نخرجه بهذه المحبة عن طبيعة البشر فنجعله رباً، أو إلهاً، أو خالقاً، أو رازقاً، وإنما ميزته الرسالة؛ حيث فضّله الله على جميع البشر، وأنزل عليه الوحي وكلفه بحمل الرسالة وتبلغها إلى جميع الناس، مع أنه لا يزال متصفاً بالبشرية وبالعبودية. قال الله تعالى: ((قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي)) (الكهف:110) . بل إن الرسل كلهم لم يخرجوا عن وصف البشرية كما حكى الله عن الرسل قولهم لأممهم: ((إن نحن إلا بشر مثلكم ولكن الله يمن على من يشاء من عباده)) (إبراهيم:11) . ولما تعنَّت بعض المشركين وطلبوا منه بعض الآيات التي لا يقدر عليها إلا الله، قال الله تعالى له: ((قل سبحان ربي هل كنت إلا بشراً رسولاً)) (الإسراء:93) .
فهل من دليل يفيد أن الرسل خرجوا عن طبيعة البشرية، فصاروا يعلمون الغيب ويملكون التصرف في الكون، ويشاركون الرب في الإعطاء والمنع، والضر والنفع، ونحو ذلك.
أليس قد قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: ((قل ما كنت بدعاً من الرسل وما أدري ما يفعل بي ولا بكم إن أتبع إلا ما يوحى إليّ، وما أنا إلا نذير مبين)) (الأحقاف:9) .