ثم جاء بعده (الإمام مالك) ، وألف كتابه (الموطأ) واختار فيه ما اختار، ولما انتشر اعتنقه من اعتنقه، ورأى كثير من العلماء أنه عالم المدينة، وأنه محدث جليل كبير، حتى إن المنصور العباسي في زمانه قال: نريد أن نحمل الناس على العمل بالموطأ كما أن عثمان حملهم على المصحف. فامتنع مالك رحمه الله، وقال: إن الصحابة تفرقوا، وإن عندهم من العلوم ما فاتنا، وليس كل العلم قد حويته، أجل ولا العشر ولو أحصيته. ثم تتلمذ عليه أيضاً تلميذ جمع من فتاواه شيئاً كثيراً في الكتاب الذي اسمه (المدونة) المطبوع في خمسة مجلدات كبار، انتشر مذهبه بسببها في أكثر البلاد المغربية والأفريقية بسب أنهم ذهبوا بكتبه هناك.
ثم جاء بعده (الشافعي) رحمه الله، وألف كتاب (الأم) ، و (الرسالة) والرسائل الكثيرة المطبوعة معهما، وهو الذي أملاها أو كتبها، واختصرها بعض تلامذته، فكان ذلك سبباً أيضاً في أن تتلمذ عليه تلامذة كثيرون في الشام وفي مصر، وفي العراق، وفي الحجاز، وفي اليمن وفي كثير من البلاد، وكثر اتباعه الذين على مذهبه بسبب اعتمادهم على هذه المؤلفات.
ثم جاء بعده -أو في زمنه- الإمام (أحمد بن حنبل) ، وكان رحمه الله لا يحب أن تكتب فتاواه، فلم يكتب في الفقه وإنما كتاباته فيما يتعلق بالحديث أو فيما يتعلق بالعقيدة، ولكن تتلمذ عليه تلامذة محبون له فكانوا يكتبون فتاواه، هذا يكتب مجلداً، وهذا يكتب ورقتين، وهذا يكتب عشرين ورقة، وهذا كتب وهذا كتب، وحتى ذكروا أنه جمع من فتاواه أكثر من ثلاثين مجلداً، ثم جمعها أحد تلاميذهم وهو أبو بكر الخلال صاحب كتاب (السنة) في عشرين مجلداً أخذها من تلامذته.