وَأَوْصَى سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - بَعْضَ أَصْحَابِهِ فَقَالَ: إنْ اسْتَطَعْت أَنْ لَا تُخَالِطَ فِي زَمَانِك هَذَا أَحَدًا فَافْعَلْ، وَلْيَكُنْ هَمُّك مَرَمَّةَ جِهَازِك، وَكَانَ يَقُولُ هَذَا زَمَانُ السُّكُوتِ وَلُزُومِ الْبَيْتِ.
وَقَدْ كَانَ سَيِّدُنَا الْإِمَامُ أَحْمَدُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يُحِبُّ الِانْفِرَادَ وَالْعُزْلَةَ مِنْ النَّاسِ، وَكَذَلِكَ إبْرَاهِيمُ بْنُ أَدْهَمَ، وَسُلَيْمَانُ الْخَوَّاصُ، وَيُوسُفُ بْنُ أَسْبَاطَ فِي خَلْقٍ كَثِيرٍ مِنْ الْخَوَاصِّ.
ثُمَّ ذَكَرَ النَّاظِمُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - بَعْضَ فَوَائِدِ الْخَلْوَةِ غَيْرَ مَا قَدَّمَهُ فَقَالَ:
وَيَسْلَمُ مِنْ قَالَ وَقِيلَ وَمِنْ أَذَى ... جَلِيسٍ وَمِنْ وَاشٍ بَغِيضٍ وَحُسَّدِ
(وَيَسْلَمُ) هُوَ (مِنْ قَالَ) فُلَانٌ (وَ) مِنْ (قِيلَ) فِي فُلَانٍ وَعَنْ فُلَانٍ، وَهُوَ مِمَّا كَرِهَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَنَا كَمَا فِي حَدِيثِ الْمُغِيرَةَ بْنِ شُعْبَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «إنَّ اللَّهَ كَرِهَ لَكُمْ ثَلَاثًا: قِيلَ وَقَالَ وَإِضَاعَةُ الْمَالِ وَكَثْرَةُ السُّؤَالِ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَاللَّفْظُ لَهُ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد وَرَوَاهُ أَبُو يَعْلَى وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ بِنَحْوِهِ، وَالْمُرَادُ حَيْثُ كَانَ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَعْنِيه، وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا «مِنْ حُسْنِ إسْلَامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لَا يَعْنِيه» .
(وَ) يَسْلَمُ أَيْضًا (مِنْ أَذَى جَلِيسٍ) أَيْ مُجَالِسٍ، يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ إضَافَةِ الْمَصْدَرِ إلَى فَاعِلِهِ أَيْ وَيَسْلَمُ الْمُعْتَزِلُ مِنْ الْأَذَى الصَّادِرِ مِنْ الْجَلِيسِ وَهُوَ الْأَظْهَرُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ إضَافَةِ الْمَصْدَرِ إلَى مَفْعُولِهِ، أَيْ وَيَسْلَمُ فِي وِحْدَتِهِ وَخَلْوَتِهِ مِنْ أَنْ يُؤْذِيَ هُوَ جَلِيسَهُ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمُتَخَلِّيَ سَلِمَ مِنْ الشَّيْئَيْنِ مَعًا.
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا عَنْ أَبِي مُوسَى - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إنَّمَا مَثَلُ الْجَلِيسِ الصَّالِحِ وَالْجَلِيسِ السُّوءِ كَحَامِلِ الْمِسْكِ وَنَافِخِ الْكِيرِ، فَحَامِلُ الْمِسْكِ إمَّا أَنْ يُحْذِيَكَ وَإِمَّا أَنْ تَبْتَاعَ مِنْهُ وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ مِنْهُ رِيحًا طَيِّبَةً، وَنَافِخُ الْكِيرِ إمَّا أَنْ يَحْرِقَ ثِيَابَك وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ مِنْهُ رِيحًا خَبِيثَةً» قَوْلُهُ يُحْذِيَكَ أَيْ يُعْطِيَك.
وَعِنْدَ أَبِي دَاوُد وَالنَّسَائِيَّ عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا «مَثَلُ جَلِيسِ الصَّالِحِ كَمَثَلِ