فَقَالَ لَهُ ابْنُ سُرَيْجٍ: أَنْتَ بِأَنْ تَقُولَ مَنْ دَامَتْ لَحَظَاتُهُ كَثُرَتْ حَسَرَاتُهُ أَحْذَقُ مِنْك بِالْكَلَامِ عَلَى الْفِقْهِ، فَقَالَ: لَئِنْ كَانَ ذَلِكَ فَإِنِّي أَقُولُ:

أُنَزِّهُ فِي رَوْضِ الْمَحَاسِنِ مُقْلَتِي ... وَأَمْنَعُ نَفْسِي أَنْ تَنَالَ مُحَرَّمَا

وَأَحْمِلُ مِنْ ثِقْلِ الْهَوَى مَا لَوْ أَنَّهُ ... يُصَبُّ عَلَى الصَّخْرِ الْأَصَمِّ تَهَدَّمَا

وَيَنْطِقُ طَرْفِي عَنْ مُتَرْجِمِ خَاطِرِي ... فَلَوْلَا اخْتِلَاسِي وُدَّهُ لَتَكَلَّمَا

رَأَيْتُ الْهَوَى دَعْوَى مِنْ النَّاسِ كُلِّهِمْ ... فَلَسْت أَرَى وُدًّا صَحِيحًا مُسَلَّمَا

فَقَالَ لَهُ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ بِمَ تَفْخَرُ عَلَيَّ وَلَوْ شِئْت لَقُلْت:

وَمُطَاعِمٌ كَالشَّهْدِ فِي ثَغَمَاتِهِ ... قَدْ بِتُّ أَمْنَعُهُ لَذِيذَ سِنَاتِهِ

صَبًّا بِهِ وَبِحُسْنِهِ وَحَدِيثِهِ ... وَأُنَزِّهُ اللَّحَظَاتِ فِي وَجَنَاتِهِ

حَتَّى إذَا مَا الصُّبْحُ لَاحَ عَمُودُهُ ... وَلَّى بِخَاتَمِ رَبِّهِ وَبَرَاتِهِ

فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَحْفَظُ عَلَيْهِ الْوَزِيرُ مَا أَقَرَّ بِهِ حَتَّى يُقِيمَ شَاهِدَيْنِ عَلَى أَنَّهُ وَلَّى بِخَاتَمِ رَبِّهِ وَبَرَاتِهِ، فَقَالَ سُرَيْجٌ: يَلْزَمُنِي فِي هَذَا مَا يَلْزَمُك فِي قَوْلِك:

أُنَزِّهُ فِي رَوْضِ الْمَحَاسِنِ مُقْلَتِي ... وَأَمْنَعُ نَفْسِي أَنْ تَنَالَ مُحَرَّمَا

فَضَحِكَ الْوَزِيرُ وَقَالَ لَقَدْ جَمَعْتُمَا لُطْفًا وَظَرْفًا.

وَذَكَرَ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي الدَّاءِ وَالدَّوَاءِ أَنَّ ابْنَ دَاوُد هَذَا رُفِعَتْ إلَيْهِ فُتْيَا مَضْمُونُهَا:

يَا ابْنَ دَاوُد يَا فَقِيهَ الْعِرَاقِ ... أَفْتِنَا فِي فَوَاتِكِ الْأَحْدَاقِ

هَلْ عَلَيْهَا بِمَا أَتَتْ مِنْ جُنَاحٍ ... أَمْ حَلَالٌ لَهَا دَمُ الْعُشَّاقِ

فَكَتَبَ الْجَوَابَ بِخَطِّهِ تَحْتَ الْبَيْتَيْنِ:

عِنْدِي جَوَابُ مَسَائِلِ الْعُشَّاقِ ... فَاسْمَعْهُ مِنْ قَرِحِ الْحَشَا مُشْتَاقِ

لَمَّا سَأَلْتَ عَنْ الْهَوَى هَيَّجْتنِي ... وَأَرَقْت دَمْعًا لَمْ يَكُنْ بِمُرَاقِ

إنْ كَانَ مَعْشُوقٌ يُعَذِّبُ عَاشِقًا ... كَانَ الْمُعَذَّبُ أَنْعَمَ الْعُشَّاقِ

قَالَ صَاحِبُ كِتَابِ مَنَازِلِ الْأَحْبَابِ شِهَابُ الدِّينِ مَحْمُودُ بْنُ سُلَيْمَانَ بْنُ فَهْدٍ صَاحِبُ الْإِنْشَاءِ، وَقُلْت فِي جَوَابِ الْبَيْتَيْنِ عَلَى وَزْنِهِمَا مُجِيبًا لِلسَّائِلِ:

طور بواسطة نورين ميديا © 2015