وَتَارَةً فِي النَّظَرِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِتِلْكَ النِّعَمِ مِنْ الْآفَاتِ، فَإِذَا لَمْ يَعْمَلْ بِمُقْتَضَى مَا فِي النَّفْسِ، وَلَمْ يَنْطِقْ لَمْ يَضُرَّهُ مَا وُضِعَ فِي الطَّبْعِ.
وَقَدْ رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «ثَلَاثَةٌ لَا يَنْجُو مِنْهُنَّ أَحَدٌ: الظَّنُّ، وَالطِّيَرَةُ، وَالْحَسَدُ وَسَأُحَدِّثُك بِالْمَخْرَجِ مِنْ ذَلِكَ: إذَا ظَنَنْت فَلَا تُحَقِّقْ، وَإِذَا حَسَدْت فَلَا تَبْغِ، وَإِذَا تَطَيَّرْت فَلَا تَرْجِعْ» أَيْ امْضِ لِمَا قَصَدْت لَهُ وَلَا تَصُدُّنَّك عَنْهُ الطِّيَرَةُ.
فَالْحَسَدُ أَوَّلًا يَضُرُّ الْحَاسِدَ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا، وَلَا يَسْتَضِرُّ بِذَلِكَ الْمَحْسُودُ، فَلَا تُؤْذِ نَفْسَك.
أَمَّا ضَرَرُهُ فِي الدِّينِ فَإِنَّ الْحَاسِدَ قَدْ سَخِطَ قَضَاءَ اللَّهِ - تَعَالَى - فَكَرِهَ نِعْمَتَهُ عَلَى عِبَادِهِ، وَهَذَا قَذًى فِي بَصَرِ الْإِيمَانِ، وَيَكْفِيهِ أَنَّهُ شَارَكَ إبْلِيسَ فِي الْحَسَدِ وَفَارَقَ الْأَنْبِيَاءَ فِي حُبِّهِمْ الْخَيْرَ لِكُلِّ أَحَدٍ.
ثُمَّ إنَّ الْحَسَدَ يَحْمِلُ عَلَى إطْلَاقِ اللِّسَانِ فِي الْمَحْسُودِ بِالشَّتْمِ وَالتَّحَيُّلِ عَلَى أَذَاهُ.
وَأَمَّا ضَرَرُهُ فِي الدُّنْيَا فَإِنَّ الْحَاسِدَ يَتَأَلَّمُ وَلَا يَزَالُ فِي كَمَدٍ.
وَأَنْشَدُوا:
دَعْ الْحَسُودَ وَمَا يَلْقَاهُ مِنْ كَمَدِهِ ... كَفَاك مِنْهُ لَهَيْبُ النَّارِ فِي جَسَدِهْ
إنْ لُمْت ذَا حَسَدٍ نَفَّسْت كُرْبَتَهُ ... وَإِنْ سَكَتَّ فَقَدْ عَذَّبْته بِيَدِهْ
قَالَ الْأَصْمَعِيُّ سَمِعْت أَعْرَابِيًّا يَقُولُ: مَا رَأَيْت ظَالِمًا أَشْبَهَ بِمَظْلُومٍ مِنْ الْحَاسِدِ حُزْنٌ لَازِمٌ، وَنَفْسٌ دَائِمٌ، وَعَقْلٌ هَائِمٌ، وَحَسْرَةٌ لَا تَنْقَضِي.
فَإِنْ قِيلَ: هَلْ لِلْحَاسِدِ دَوَاءٌ؟ فَالْجَوَابُ: قَلَّ أَنْ يَنْجَعَ فِيهِ دَوَاءٌ لِأَنَّهُ جَهُولٌ ظَلُومٌ وَلَيْسَ يُشْفِي عِلَّةَ صَدْرِهِ وَيُزِيلُ حَزَّازَةَ الْحَسَدِ مِنْ قَلْبِهِ إلَّا زَوَالُ النِّعْمَةِ، فَحِينَئِذٍ يَتَعَذَّرُ الدَّوَاءُ أَوْ يَعِزُّ.
وَمِنْ هَذَا قَوْلُ بَعْضِهِمْ وَأَحْسَنُ:
وَكُلٌّ أُدَاوِيه عَلَى قَدْرِ دَائِهِ ... سِوَى حَاسِدِي فَهِيَ الَّتِي لَا أَنَالُهَا
وَكَيْفَ يُدَاوِي الْمَرْءُ حَاسِدَ نِعْمَةٍ ... إذَا كَانَ لَا يُرْضِيه إلَّا زَوَالُهَا
نَعَمْ إنْ كَانَ الْحَاسِدُ ذَا فَهْمٍ فَدَوَاؤُهُ أَنْ يَقْمَعَ أَسْبَابَ الْحَسَدِ مِنْ الْبَاطِنِ، فَإِنَّ سَبَبَهَا فِي الْغَالِبِ الْكِبْرُ وَعِزَّةُ النَّفْسِ، ثُمَّ يَتَكَلَّفُ مَدْحَ الْمَحْسُودِ وَالتَّوَاضُعَ لَهُ وَالْهَدِيَّةَ إلَيْهِ.
ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّك إنَّمَا تَحْسُدُ إخْوَانَك عَلَى الدُّنْيَا وَحُطَامِهَا، وَأَمَّا قُوَّامُ اللَّيْلِ وَصُوَّامُ النَّهَارِ فَلَا أَرَاك تَحْسُدُهُمْ.
فَبِاَللَّهِ عَلَيْك اعْرِفْ قَدْرَ الدُّنْيَا وَاعْلَمْ أَنَّهَا