فِيهِ مَا يُؤْذِي فِي بَابِ الْوَرَعِ وَكَانَ مَا شَرَحْته جَوَابًا لِلْقَائِلِ مَا أُبَلِّغُ نَفْسِي شَهْوَةً عَلَى الْإِطْلَاقِ.
قَالَ: وَالْوَجْهُ الثَّانِي أَنِّي أَخَافُ عَلَى الزَّاهِدِ أَنْ تَكُونَ شَهْوَتُهُ انْقَلَبَتْ إلَى التَّرْكِ فَصَارَ يَشْتَهِي أَنْ لَا يَتَنَاوَلَ وَلِلنَّفْسِ فِي هَذَا مَكْرٌ خَفِيٌّ وَرِيَاءٌ دَقِيقٌ، فَإِنْ سَلِمَتْ مِنْ الرِّيَاءِ لِلْخَلْقِ كَانَتْ الْآفَةُ مِنْ جِهَةِ تَعَلُّقِهَا بِمِثْلِ هَذَا الْفِعْلِ وَإِدْلَالِهَا فِي الْبَاطِنِ بِهِ، فَهَذِهِ مُخَاطَرَةٌ قَالَ وَرُبَّمَا قَالَ بَعْضُ الْجُهَّالِ هَذَا صَدٌّ عَنْ الْخَيْرِ وَالزُّهْدِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، فَإِنَّ الْحَدِيثَ قَدْ صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «كُلُّ عَمَلٍ لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ» .
وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَغْتَرَّ بِعِبَادَةِ فُلَانٍ وَلَا بِتَقْوَى فُلَانٍ، إلَى أَنْ قَالَ: أَصْلُ الْأُصُولِ الْعِلْمُ، وَأَنْفَعُ الْعِلْمِ النَّظَرُ فِي سِيَرِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابِهِ {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} [الأنعام: 90] .
وَقَالَ فِي مَحَلٍّ آخَرَ مِنْ صَيْدِ الْخَاطِرِ: عَلَفُ النَّاقَةِ مُتَعَيَّنٌ لِقَطْعِ الْمَنْزِلِ، أَلَا تَرَى إلَى سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، فَإِنَّهُ كَانَ شَدِيدَ الْمَعْرِفَةِ، وَالْخَوْفِ وَكَانَ يَأْكُلُ اللَّذِيذَ وَيَقُولُ: إنَّ الدَّابَّةَ إذَا لَمْ يُحْسِنْ إلَيْهَا لَمْ تَعْمَلْ. قَالَ: وَلَعَلَّ بَعْضَ مَنْ يَسْمَعُ كَلَامِي هَذَا يَقُولُ هَذَا مَيْلٌ عَلَى الزُّهَّادِ فَأَقُولُ كُنْ مَعَ الْعُلَمَاءِ وَانْظُرْ إلَى طَرِيقِ الْحَسَنِ وَسُفْيَانَ، وَمَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَدَ وَالشَّافِعِيِّ وَهَؤُلَاءِ أُصُولُ الْإِسْلَامِ وَلَا تُقَلِّدْ فِي دِينَك مَنْ قَلَّ عِلْمُهُ، وَإِنْ قَوِيَ زُهْدُهُ وَاحْمِلْ أَمْرَهُ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يُطِيقُ هَذَا وَلَا تَقْتَدِ بِهِمْ فِيمَا لَا تُطِيقُهُ فَلَيْسَ أَمْرُنَا إلَيْنَا وَالنَّفْسُ وَدِيعَةٌ عِنْدَنَا.
وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ مِنْ الْكِتَابِ الْمَذْكُورِ: وَأَمَّا الْمَطْعَمُ فَالْمُرَادُ بِهِ تَقْوِيَةُ هَذَا الْبَدَنِ لِخِدْمَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَحَقٌّ عَلَى ذِي النَّاقَةِ أَنْ يُكْرِمَهَا لِتَحْمِلَهُ. وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَأْكُلُ مَا وَجَدَ، فَإِنْ وَجَدَ اللَّحْمَ أَكَلَهُ وَيَأْكُلُ لَحْمَ الدَّجَاجِ، وَأَحَبُّ الْأَشْيَاءِ إلَيْهِ الْحَلْوَى، وَالْعَسَلُ، وَمَا نُقِلَ عَنْهُ أَنَّهُ امْتَنَعَ مِنْ مُبَاحٍ قَالَ: وَجِيءَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِفَالُوذَجٍ فَأَكَلَ مِنْهُ، وَقَالَ: مَا هَذَا؟ قَالُوا: يَوْمَ النَّيْرُوزِ فَقَالَ: نَوْرِزُونَا كُلَّ يَوْمٍ، وَإِنَّمَا يُكْرَهُ الْأَكْلُ فَوْقَ الشِّبَعِ، وَاللُّبْسُ عَلَى وَجْهِ الِاخْتِيَالِ، وَالْبَطَرِ.
وَقَدْ اقْتَنَعَ أَقْوَامٌ بِالدُّونِ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْحَلَالَ الصَّافِيَ لَا يَكَادُ يُمْكِنُ فِيهِ تَحْصِيلُ الْمُرَادِ وَإِلَّا فَقَدْ لَبِسَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حُلَّةً اُشْتُرِيَتْ بِسَبْعَةٍ وَعِشْرِينَ بَعِيرًا.