الْبَارِدِ؟ وَكَانَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ يَحْمِلُ فِي سَفَرِهِ الْفَالُوذَجَ وَاللَّحْمَ الْمَشْوِيَّ، وَيَقُولُ: إنَّ الدَّابَّةَ إذَا أُحْسِنَ إلَيْهَا عَمِلَتْ، وَمَا حَدَثَ فِي الزُّهَّادِ بَعْدَهُمْ أُمُورٌ مِنْ هَذَا الْفَنِّ مَسْرُوقَةٌ مِنْ الرَّهْبَانِيَّةِ. وَأَنَا خَائِفٌ مِنْ قَوْله تَعَالَى {لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا} [المائدة: 87] وَلَا يُحْفَظُ عَنْ أَحَدٍ مِنْ السَّلَفِ الْأَوَّلِ مِنْ الصَّحَابَةِ مِنْ هَذَا الْفَنِّ شَيْءٌ إلَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ لِعَارِضٍ وَسَبَبٍ، مِثْلُ مَا يُرْوَى عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ اشْتَهَى شَيْئًا فَآثَرَ بِهِ فَقِيرًا وَأَعْتَقَ جَارِيَتَهُ رُمَيْثَةَ، وَقَالَ: إنَّهَا أَحَبُّ الْخَلْقِ إلَيَّ فَهَذَا وَأَمْثَالُهُ حَسَنٌ؛ لِأَنَّهُ إيثَارٌ بِمَا هُوَ أَجْوَدُ عِنْدَ النَّفْسِ مِنْ غَيْرِهِ وَأَكْثَرُ لَهَا مِنْ سِوَاهُ، فَإِذَا وَقَعَ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ كَسَرْت بِذَلِكَ الْفِعْلِ سَوْرَةَ هَوَاهَا أَنْ تَطْغَى بِنَيْلِ كُلِّ طَرِيدٍ، فَأَمَّا مَنْ دَامَ عَلَى مُخَالَفَتِهَا عَلَى الْإِطْلَاقِ، فَإِنَّهُ يُعْمِي قَلْبَهَا وَيُبَلِّدُ خَوَاطِرَهَا وَيُشَتِّتُ عَزَائِمَهَا فَيُؤْذِيهَا أَكْثَرَ مِمَّا يَنْفَعُهَا، وَقَدْ قَالَ إبْرَاهِيمُ بْنُ أَدْهَمَ قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ: إنَّ الْقَلْبَ إذَا أُكْرِهَ عَمِيَ قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَتَحْتَ مَقَالَتِهِ سِرٌّ لَطِيفٌ، وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ وَضَعَ طَبِيعَةَ الْآدَمِيِّ عَلَى مَعْنًى عَجِيبٍ، وَهُوَ أَنَّهَا تَخْتَارُ الشَّيْءَ مِنْ الشَّهَوَاتِ مَا يُصْلِحُهَا فَيَعْلَمُ بِاخْتِيَارِهَا لَهُ صَلَاحَهُ لَهَا وَصَلَاحَهَا بِهِ.
وَقَدْ قَالَ حُكَمَاءُ الطِّبِّ: يَنْبَغِي أَنْ يُفَسِّحَ النَّفْسَ فِيمَا تَشْتَهِي مِنْ الْمَطَاعِمِ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ نَوْعُ ضَرَرٍ؛ لِأَنَّهَا إنَّمَا تَخْتَارُ مَا يُلَائِمُهَا، فَإِذَا قَمَعَهَا الزَّاهِدُ فِي مِثْلِ هَذَا عَادَ عَلَى بَدَنِهِ بِالضَّرَرِ، وَلَوْلَا جَوَاذِبُ فِي الْبَاطِنِ مِنْ الطَّبِيعَةِ مَا بَقِيَ الْبَدَنُ، فَإِنَّ الشَّهْوَةَ لِلطَّعَامِ تَثُورُ، فَإِذَا وَقَعَتْ الْغَنِيمَةُ بِمَا يُتَنَاوَلُ كَفَّتْ الشَّهْوَةُ، فَالشَّهْوَةُ نِعْمَ الْبَاعِثُ عَلَى مَصْلَحَةِ الْبَدَنِ غَيْرَ أَنَّهَا إذَا أَفْرَطَتْ وَقَعَ الْأَذَى وَمَتَى مُنِعَتْ مَا تُرِيدُ عَلَى الْإِطْلَاقِ مَعَ الْأَمْنِ مِنْ فَسَادِ الْعَاقِبَةِ عَادَ ذَلِكَ بِفَسَادِ أَحْوَالِ النَّفْسِ وَوَهْنِ الْجِسْمِ وَاخْتِلَافِ السَّقَمِ الَّذِي يَتَدَاعَى بِهِ الْجَهَلَةُ مِثْلُ أَنْ مَنَعَهَا الْمَاءَ عِنْدَ اشْتِدَادِ الْعَطَشِ، وَالْغِذَاءَ عِنْدَ الْجُوعِ، وَالْجِمَاعَ عِنْدَ قُوَّةِ الشَّهْوَةِ وَالنَّوْمَ عِنْدَ غَلَبَتِهِ، حَتَّى أَنَّ الْمُغْتَمَّ إذَا لَمْ يَتَرَوَّحْ بِالشَّكْوَى قَتَلَهُ الْكَمَدُ.
فَهَذَا أَصْلٌ إذَا فَهِمَهُ هَذَا الزَّاهِدُ عَلِمَ أَنَّهُ قَدْ خَالَفَ طَرِيقَ الرَّسُولِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابِهِ مِنْ حَيْثُ النَّقْلُ وَخَالَفَ الْمَوْضُوعَ فِي الْحِكْمَةِ.
قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَلَا يَلْزَمُ: عَلَى هَذَا قَوْلُ الْقَائِلِ مِنْ أَيْنَ يَصْفُو الْمَطْعَمُ؟ ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَصْفُ كَانَ التَّرْكُ وَرَعًا، وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِي الْمَطْعَمِ الَّذِي لَيْسَ