غَيْرَ مَكْفِيٍّ أَنَّهُ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ كَأَنَّهُ عَلَى هَذَا مِنْ الْكِفَايَةِ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ غَيْرُهُ فِي تَفْسِيرِ هَذَا الْحَدِيثِ أَيْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مُسْتَغْنٍ مِنْ مُعِينٍ وَظَهِيرٍ.
قَالَ: وَقَوْلُهُ وَلَا مُودَعٍ أَيْ غَيْرَ مَتْرُوكِ الطَّلَبِ مِنْهُ وَالرَّغْبَةِ إلَيْهِ، وَهُوَ بِمَعْنَى الْمُسْتَغْنَى عَنْهُ وَيُنْتَصَبُ " رَبَّنَا " عَلَى هَذَا بِالِاخْتِصَاصِ، وَالْمَدْحِ، أَوْ بِالنِّدَاءِ كَأَنَّهُ قَالَ يَا رَبَّنَا اسْمَعْ حَمْدَنَا وَدُعَاءَنَا، وَمَنْ رَفَعَهُ قَطَعَهُ وَجَعَلَهُ خَبَرًا لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ أَيْ ذَلِكَ هُوَ رَبُّنَا، أَوْ أَنْتَ رَبُّنَا، وَيَصِحُّ كَسْرُهُ عَلَى الْبَدَلِ مِنْ اسْمِ الْجَلَالَةِ فِي قَوْلِهِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ.
وَذَكَرَ ابْنُ الْأَثِيرِ فِي نِهَايَتِهِ نَحْوَ هَذَا الْخِلَافِ مُخْتَصَرًا قَالَ: وَمَنْ رَفَعَ " رَبَّنَا فَعَلَى الِابْتِدَاءِ الْمُؤَخَّرِ أَيْ رَبُّنَا غَيْرُ مَكْفِيٍّ وَلَا مُودَعٍ وَعَلَى هَذَا يَرْفَعُ " غَيْرُ " قَالَ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ رَاجِعًا إلَى الْحَمْدِ كَأَنَّهُ حَمْدٌ كَثِيرٌ غَيْرُ مَكْفِيٍّ وَلَا مُودَعٍ وَلَا مُسْتَغْنًى عَنْ هَذَا الْحَمْدِ، وَقَالَ فِي قَوْلِهِ: وَلَا مُودَعٍ أَيْ غَيْرِ مَتْرُوكِ الطَّاعَةِ وَقِيلَ: هُوَ مِنْ الْوَدَاعِ وَإِلَيْهِ يَرْجِعُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيِّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ أَبِي أَيُّوبَ خَالِدِ بْنِ زَيْدٍ الْأَنْصَارِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا أَكَلَ، أَوْ شَرِبَ قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَطْعَمَ وَسَقَى وَسَوَّغَهُ وَجَعَلَ لَهُ مَخْرَجًا» .
وَفِي سُنَنِ النَّسَائِيّ وَكِتَابِ ابْنِ السُّنِّيِّ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جُبَيْرٍ التَّابِعِيِّ أَنَّهُ حَدَّثَهُ «رَجُلٌ خَدَمَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثَمَانِيَ سِنِينَ أَنَّهُ كَانَ يَسْمَعُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا قَرَّبَ إلَيْهِ طَعَامًا يَقُولُ: بِسْمِ اللَّهِ فَإِذَا فَرَغَ مِنْ طَعَامِهِ قَالَ: اللَّهُمَّ أَطْعَمْت وَسَقَيْت وَأَغْنَيْت وَأَقْنَيْت وَهَدَيْت وَاجْتَبَيْت فَلَكَ الْحَمْدُ عَلَى مَا أَعْطَيْت.
» وَفِي كِتَابِ ابْنِ السُّنِّيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي الطَّعَامِ إذَا فَرَغَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي مَنَّ عَلَيْنَا وَهَدَانَا وَاَلَّذِي أَشْبَعَنَا وَأَرْوَانَا وَكُلَّ الْإِحْسَانِ آتَانَا» ، وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد وَالتِّرْمِذِيِّ وَكِتَابِ ابْنِ السُّنِّيِّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذَا أَكَلَ أَحَدُكُمْ طَعَامًا» .
وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ السُّنِّيِّ «مَنْ أَطْعَمَهُ اللَّهُ طَعَامًا فَلْيَقُلْ: اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِيهِ وَأَطْعِمْنَا خَيْرًا مِنْهُ، وَمَنْ سَقَاهُ اللَّهُ تَعَالَى لَبَنًا فَلْيَقُلْ: اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِيهِ وَزِدْنَا مِنْهُ، فَإِنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ يُجْزِئُ مِنْ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ غَيْرُ اللَّبَنِ» قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.