وَكَانَ قَدْ اسْتَعْمَلَهُ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي خِلَافَتِهِ عَلَى مِيسَانَ مِنْ أَرْضِ الْبَصْرَةِ فَقَالَ أَبْيَاتًا مِنْهَا:
أَلَا هَلْ أَتَى الْحَسْنَاءَ أَنَّ حَلِيلَهَا ... بِمَيْسَانَ يُسْقَى فِي زُجَاجٍ وَحَنْتَمِ
إذَا شِئْت غَنَّتْنِي دَهَاقِينُ قَرْيَةٍ ... وَرَقَّاصَةٍ تَجْذُو عَلَى كُلِّ مَنْسِمِ
فَإِنْ كُنْت نَدْمَانِي فَبِالْأَكْبَرِ اسْقِنِي ... وَلَا تَسْقِنِي بِالْأَصْغَرِ الْمُتَثَلِّمِ
لَعَلَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ يَسُوءُهُ ... تَنَادُمُنَا فِي الْجَوْسَقِ الْمُتَهَدِّمِ
فَلَمَّا بَلَغَتْ أَبْيَاتُهُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ نَعَمْ وَاَللَّهِ إنَّ ذَلِكَ لَيَسُوءُنِي، فَمَنْ لَقِيَهُ فَلْيُخْبِرْهُ أَنِّي قَدْ عَزَلْته، وَعَزَلَهُ، فَلَمَّا قَدِمَ عَلَيْهِ اعْتَذَرَ إلَيْهِ وَقَالَ وَاَللَّهِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مَا صَنَعْت شَيْئًا مِمَّا بَلَغَك أَنِّي قُلْته قَطُّ، وَلَكِنِّي كُنْت امْرَأً شَاعِرًا وَجَدْت فَضْلًا مِنْ قَوْلٍ فَقُلْت فِيمَا يَقُولُ الشُّعَرَاءُ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: وَأَيْمُ اللَّهِ لَا تَعْمَلُ لِي عَلَى عَمَلٍ مَا بَقِيتُ وَقَدْ قُلْتَ مَا قُلْتَ.
وَيُشَابِهُ هَذَا مَا ذَكَرَهُ الْإِمَامُ الْحَافِظُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي كِتَابِهِ تَلْقِيحُ الْفُهُومِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عُثْمَانَ السُّلَمِيِّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: بَيْنَمَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَطُوفُ ذَاتَ لَيْلَةٍ فِي سِكَكِ الْمَدِينَةِ إذْ سَمِعَ امْرَأَةً تَقُول:
هَلْ مِنْ سَبِيلٍ إلَى خَمْرٍ فَأَشْرَبُهَا ... أَمْ مِنْ سَبِيلٍ إلَى نَصْرِ بْنِ حَجَّاجِ
إلَى فَتًى مَاجِدِ الْأَعْرَاقِ مُقْتَبِلٍ ... سَهْلِ الْمُحَيَّا كَرِيمٍ غَيْرِ مِلْجَاجِ
تُهِنِّيهِ أَعْرَاقُ صِدْقٍ حِينَ تَنْسُبُهُ ... أَخًا وَفِيًّا عَنْ الْمَكْرُوهِ فَرَّاجِ
فَقَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، لَا أَرَى مَعِي بِالْمَدِينَةِ رَجُلًا تَهْتِفُ بِهِ الْهَوَاتِفُ فِي خُدُورِهِنَّ، عَلَيَّ بِ (نَصْرِ بْنِ حَجَّاجٍ) ، فَلَمَّا جِيءَ بِهِ فَإِذَا هُوَ مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ وَجْهًا وَأَحْسَنِهِمْ شَعْرًا، فَقَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: عَزِيمَةً مِنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ لَتَأْخُذَنَّ مِنْ شَعْرِك. فَأَخَذَ مِنْ شَعْرِهِ، فَخَرَجَ وَلَهُ وَجْنَتَانِ كَأَنَّهُمَا شَقَّتَا قَمَرٍ، فَقَالَ لَهُ اعْتَمَّ فَاعْتَمَّ فَافْتَتَنَ النَّاسُ بِعَيْنَيْهِ، فَقَالَ عُمَرُ وَاَللَّهِ لَا تُسَاكِنُنِي فِي بَلْدَةٍ أَنَا فِيهَا. قَالَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مَا ذَنْبِي؟ قَالَ هُوَ مَا أَقُولُ لَك. ثُمَّ سَيَّرَهُ إلَى الْبَصْرَةِ، وَخَشِيَتْ الْمَرْأَةُ وَهِيَ الْفَارِعَةُ أُمُّ الْحَجَّاجِ بْنِ يُوسُفَ الثَّقَفِيِّ أَنْ يَبْدُوَ مِنْ عُمَرَ إلَيْهَا شَيْءٌ فَدَسَّتْ الْمَرْأَةُ إلَيْهِ أَبْيَاتًا وَهِيَ: