لَمَا اسْتَجَازَ كَعْبٌ أَنْ يَذْكُرَهُ وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْهُمْ، وَلَتَرَكَهُ أَدَبًا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذْ كَانَ قُرَشِيًّا. وَلَقَدْ اسْتَنْشَدَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ مَا قَالَهُ الْهَوْزَنِيُّ فِي قُرَيْشٍ:
يَا شِدَّةً مَا شَدَدْنَا غَيْرَ كَاذِبَةٍ ... عَلَى سَخِينَةَ لَوْلَا اللَّيْلُ وَالْحَرَمُ
فَقَالَ: مَا زَادَ هَذَا عَلَى أَنْ اسْتَثْنَى. وَلَمْ يَكْرَهْ سَمَاعَ التَّلْقِيبِ لِسَخِينَةٍ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ هَذَا اللَّقَبَ لَمْ يَكُنْ مَكْرُوهًا عِنْدَهُمْ، وَلَا كَانَ فِيهِ تَعْيِيرٌ لَهُمْ بِشَيْءٍ يُكْرَهُ.
قَالَ فِي الزَّهْرِ: وَفِي كَلَامِهِ نَظَرٌ فِي مَوْضِعَيْنِ:
الْأَوَّلُ: كُلُّ مَنْ، تَعَرَّضَ لِنَسَبٍ أَوْ تَارِيخٍ وَشِبْهِهِمَا فِيمَا رَأَيْت يَزْعُمُونَ أَنَّ قُرَيْشًا كَانَتْ تُعَابُ بِأَكْلِ السَّخِينَةِ. هَذَا الْكَلْبِيُّ وَالْبَلَاذُرِيُّ وَأَبُو عُبَيْدٍ وَالْمَدَائِنِيُّ وَأَبُو الْفَرَجِ وَابْنُ دُرَيْدٍ وَابْنُ الْأَعْرَابِيِّ وَأَبُو عُبَيْدَةَ وَمَنْ لَا يُحْصَى قَالُوا ذَلِكَ.
الثَّانِي: قَوْلُهُ وَلَوْ كَرِهَهُ إلَخْ لَيْسَ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى قَوْلِهِ لِأُمُورٍ: الْأَوَّلُ يُحْتَمَلُ أَنَّ سَيِّدَنَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَسْمَعْ ذَلِكَ أَوْ سَمِعَهُ وَأَنْكَرَهُ وَلَمْ يَبْلُغْنَا نَحْنُ ذَلِكَ قَالَ الشَّامِيُّ: وَهَذَانِ الْأَمْرَانِ لَيْسَا بِشَيْءٍ، وَهُوَ كَمَا قَالَ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِكَعْبٍ لَمَّا قَالَ جَاءَتْ سَخِينَةُ الْبَيْتَ شَكَرَك اللَّهُ تَعَالَى عَلَى قَوْلِك هَذَا يَا كَعْبُ رَوَاهُ ابْنُ هِشَامٍ أَوْ أَنَّهُ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَرَادَ نِكَايَتَهُمْ فَأَغْضَى عَنْ ذَلِكَ، لِأَنَّ الَّذِي بَيْنَهُمْ كَانَ أَشَدَّ مِنْ ذَلِكَ.
وَقَوْلُ السُّهَيْلِيِّ وَلَقَدْ اسْتَنْشَدَ عَبْدُ الْمَلِكِ إلَخْ فِيهِ نَظَرٌ، مِنْ حَيْثُ إنَّ الْمَرْزُبَانِيَّ ذَكَرَ هَذَا الشِّعْرَ لِخِرَاشِ بْنِ زُهَيْرِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ عَامِرِ بْنِ صَعْصَعَةَ وَلَيْسَ مِنْ هَوَازِنَ فِي وِرْدٍ وَلَا صَدْرٍ، وَإِنَّ عَبْدَ الْمَلِكِ تَنَازَعَ إلَيْهِ قَوْمٌ مِنْ بَنِي عَامِرِ بْنِ صَعْصَعَةَ فِي الْعَرَافَةِ، فَنَظَرَ إلَى فَتًى فِيهِمْ شِعْشَاعٍ فَقَالَ يَا فَتَى قَدْ وَلَّيْتُك الْعَرَافَةَ، فَقَامُوا وَهُمْ يَقُولُونَ قَدْ أَفْلَحَ ابْنُ خِرَاشٍ، فَسَمِعَهَا عَبْدُ الْمَلِكِ فَقَالَ كَلًّا وَاَللَّهِ لَا يَهْجُونَا أَبُوك فِي الْجَاهِلِيَّةِ بِقَوْلِهِ: يَا شِدَّةً مَا شَدَدْنَا غَيْرَ كَاذِبَةٍ، إلَخْ وَنُسَوِّدُك فِي الْإِسْلَامِ، فَوَلَّاهَا غَيْرَهُ، فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا يَكْرَهُونَ هَذَا اللَّقَبَ وَقَالَ فِي الْقَامُوسِ: وَسَخِينَةٌ كَسَفِينَةٍ طَعَامٌ رَقِيقٌ يُتَّخَذُ مِنْ دَقِيقٍ، وَلَقَبٌ لِقُرَيْشٍ لِاِتِّخَاذِهَا إيَّاهُ وَكَانَتْ تُعَيَّرُ بِهِ. انْتَهَى.