لقد أدرنا ظهرنا للقرآن، واكتفينا بما نفعله معه، ولم نفكر في كيفية الاستفادة من الوصفة النبوية للخروج من المأزق الراهن، كل ذلك حدث لأننا لا ندرك حجم التغيير الذي يمكن أن يحدثه القرآن فيمن يحُسن التعامل معه، ولأننا قد ورثنا مفهومًا محدودا عن القرآن جعلنا لا نصدق بأنه المخرج السهل الميسر لما نحن فيه.
معنى ذلك أنه لا بد أولا من تغيير هذا المفهوم، وأن ندير وجوهنا للقرآن، ونبدأ رحلة العودة الحقيقية إليه.
ولقد تم الحديث بفضل الله عز وجل في غير هذا الموضع عن عقبات العودة إلى القرآن بشيء من التفصيل (?).
هذه العقبات من السهل اجتيازها إذا ما وضحت الرؤية، وتم الاقتناع بأن مشكلتنا مشكلة إيمانية، وأنه لا بديل عن القرآن لحل هذه المشكلة كمشروع يسع الأمة جميعا.
ومن هذا المنطلق ستشتد الحاجة إلى القرآن ومن ثم يتولد العزم، ويأتي المدد والعون من الله عز وجل، فيفتح لنا منابع الإيمان التي تحملها آيات القرآن، فتبث الروح وتيار الحياة إلى قلوبنا.
ومما يؤكد أننا لم نستفد من وجود القرآن بيننا استفادة حقيقية ما قاله صلى الله عليه وسلم لربه، وشكوته إليه من قومه حول طريقة تعاملهم مع القرآن {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا} [الفرقان: 30].
فكلمة {اتَّخَذُوا} تدل على عمل إيجابي كقوله تعالى {وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِن بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَدًا} [الأعراف: 148].
وكلمة {مَهْجُورًا} تدل على عمل سلبي.
فكيف يكون اتخاذ الشيء بهجره؟!
لو كان المقصد من هجره عدم التعامل معه بكل الصور والأشكال لكانت الشكوى: يا رب إن قومي هجروا القرآن.
ولكن الإتيان بكلمة {اتَّخَذُوا} يدل على أن القوم قد عملوا أعمالا معينة، وبذلوا مجهودًا مع القرآن, هذه الأعمال، وهذا المجهود يُصب في خانة هجر القرآن.
فالانشغال بقراءته دون فهم ولا تأثر، والإسراع بحفظه دون تعلم معانيه، والعمل بها، وإقامة الإذاعات، والمدارس، والجامعات التي تهتم بشكله ولفظه دون حقيقته وجوهره والغاية العظمة من نزوله .. هذا المجهود الضخم لم يخدم القرآن الخدمة المطلوبة، فظل القرآن مع هذا كله مهجورا، فقد هجروه كقائد يقود الحياة، ومصنع للتغيير، ومعجزة تبث الروح.
وفي هذا المعنى يقول عبد الله بن مسعود:
نزل القرآن لُيعمل به، فاتخذ الناس تلاوته عملا. أي أصبحت التلاوة وما يتعلق بها هي عملهم وشغلهم الشاغل مع القرآن، أما فهمه والتأثر به، والعمل بما تدل عليه آياته فقلما تجد من يفعله أو يثابر عليه.
من هنا نقول إنه ليس أمامنا سوى أن نبدأ رحلة العودة إلى القرآن، وهي بلا شك رحلة صعبة في البداية لأننا سنقاوم أثناءها موروثات خاطئة ورثناها في التعامل معه، ونقاوم كذلك هوى النفس التي تجد في القراءة السريعة، والحفظ السريع مستراحًا لها يخدم حظوظها ويحقق ذاتها ولا يكلفها الكثير.
ومما ييسر علينا قطع أشواط تلك الرحلة بسهولة صدق اللجوء إلى الله وطلب المعونة منه، واستشعار الخوف من استمرار الوضع الراهن، وأن بأيدينا تغييره لو وصلنا إلى المعجزة القرآنية، وإلى منابع الإيمان في القرآن.
حُسن الاْنتفاع بالقرآن, والاغتراف من نبع الإيمان المتدفق من كل آية من آياته يحتاج منا أول ما يحتاج إلى تغيير نظرتنا الضيقة إليه فتتسع وتتسع، لتشمل أهم وظيفة له وأنه وسيلة عظمى للهداية والشفاء والتغيير، ومعين إيماني لا ينضب.