اجتهادهم يعتمدون على ملكتهم التشريعية التي تكونت لهم من مشافهة الرسول ومشاهدتهم تشريعه واجتهاده، ووقوفهم على أسرار التشريع ومبادئه العامة، فتارة كانوا يقيسون ما لا نص فيه على ما فيه نص، وتارة كانوا يشرعون ما تقضي به المصلحة أو دفع المفسدة، ولم يتقيدوا بقيود في المصلحة الواجب مراعاتها، وبهذا كان اجتهادهم فيما لا نص فيه فسيحًا مجاله، وفيه متسع لحاجات الناس ومصالحهم، وقد دخلت في الإسلام شعوب مختلفة وبلاد متنائية، وكانت حرية هذا الاجتهاد كفيلة بالتقنين والتشريع لكل معاملتهم وحاجاتهم.

وكانوا في أول عهدهم -أي في خلافة أبي بكر، وأول خلافة عمر- يتولون سلطتهم التشريعية فيما لا نص فيه في جمعية تشريعية مكونة من رءوسهم وما يصدر عنهم من الأحكام يعتبر حكم جماعتهم. يدل على ذلك ما رواه البغوي في مصابيح السنة قال: "كان أبو بكر إذا ورد عليه الخصوم نظر في كتاب الله، فإن وجد فيه ما يقضي بينهم قضى به، وإن لم يجد في الكتاب وعلم من رسول الله في ذلك الأمر سنة قضى بها، فإن أعياه خرج فسأل المسلمين وقال: أتاني كذا وكذا فهل علمتم أن رسول الله قضى في ذلك بقضاء؟ فربما اجتمع عليه النفر كلهم يذكر عن رسول الله فيه قضاء، فيقول أبو بكر: الحمد لله الذي جعل فينا من يحفظ عن نبينا. فإن أعياه أن يجد فيه سنة عن رسول الله جمع رءوس الناس وخيارهم، فإن أجمع رأيهم على أمر قضى به. وكان عمر يفعل ذلك؛ فإن أعياه أن يجد في القرآن والسنة نظر هل كان فيه لأبي بكر قضاء؛ فإن وجد أبا بكر قضى فيه بقضاء قضى به وإلا دعا رءوس المسلمين؛ فإن اجتمعوا على شيء قضى به".

وبهذا الاجتماع كان الاختلاف في الآراء نادرا؛ لأن كل واحد من رءوس التشريع المجتمعين يبدي للآخرين ما عنده من وجوه النظر، وما يستند إليه من أدلة، ووجهتهم الحق والصواب وأكثر الأحكام التي يقال فيها: إنها أجمع عليها الصحابة شرعت في هذه الفترة من هذا العهد.

أما بعد أن فتح الله للمسلمين كثيرا من البلاد وتفرق رءوس الصحابة في مختلف الأمصار، وصار غير ميسور للخليفة بالمدينة أن يجمع هؤلاء الرءوس من الكوفة والبصرة والشام ومصر وغيرها كلما عرضت واقعة ليس فيها نص في القرآن أو السنة، فقد أخذ رجال التشريع من الصحابة يتولون سلطتهم التشريعية

طور بواسطة نورين ميديا © 2015