والحق أن عد الاستصحاب نفسه دليلا على الحكم فيه تجوز، لأن الدليل في الحقيقة هو الدليل الذي ثبت به الحكم السابق، وما الاستصحاب إلا استبقاء دلالة هذا الدليل على حكمه.
وقد قرر علماء الحنفية أن الاستصحاب حجة للدفع لا للإثبات، مرادهم بهذا أنه حجة على بقاء ما كان على ما كان، ودفع ما يخالفه حتى يقوم دليل يثبت هذا الذي يخالفه، وليس حجة لإثبات أمر غير ثابت، ويوضح هذا ما قرروه في المفقود وهو الغائب الذي لا يدري مكانه ولا تعلم حياته ولا وفاته، فهذا المفقود يحكم بأنه باستصحاب الحال التي عرف بها حتى يقوم دليل على وفاته، وهذا الاستصحاب الذي دل على حياته حجة تدفع بها دعوى وفاته والإرث منه وفسخ إجارته، وطلاق زوجته، ولكنه ليس حجة لإثبات إرثه من غيره لأن حياته الثابتة بالاستصحاب حياة اعتبارية لا حقيقة.
إذا قص القرآن أو السنة الصحيحة حكما من الأحكام الشرعية، التي شرعها الله لمن سبقنا من الأمم، على ألسنة رسلهم ونص على أنها مكتوبة علينا، كما كانت مكتوبة عليهم، فلا خلاف في أنها شرع لنا وقانون واجب اتّباعه، بتقرير شرعنا لها، كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ} [البقرة: 183] .
وإذا قص القرآن الكريم أو السنة الصحيحة حكما من هذه الأحكام، وقام الدليل الشرعي على نسخة ورفعه عنّا، فلا خلاف في أنه ليس شرعا لنا بالدليل الناسخ من شرعنا، مثل ما كان في شريعة موسى من أن العاصي لا يكفّر ذنبه إلا أن يقتل نفسه، ومن أن الثوب إذا أصابته نجاسة لا يطره إلا قطع ما أصيب منه، وغير ذلك من الأحكام التي كانت إصراً حمله الذين من قبلنا ورفعه الله عنا.