والدلالة أو أحدهما ظني فقط ففيهما للاجتهاد مجال، لأن المجتهد عليه أن يبحث في الدليل الظني الورود من حيث سنده، وطريق وصوله إلينا عن الرسول، ودرجة رواته من العدالة والضبط والثقة والصدق، وفي هذا يختلف تقدير المجتهدين للدليل. فمنهم من يطمئن إلى روايته ويأخذ به، ومنهم من لا يطمئن إلى روايته ولا يأخذ به. وهذا باب من الأبواب التي اختلف من أجلها المجتهدون في كثير من الأحكام العلمية.
فإن أداة اجتهاده في سند الدليل إلى الاطمئنان لروايته، وصدق رواته، واجتهد في معرفة ما يدل عليه الدليل من الأحكام وما يطبق فيه من الوقائع، لأن الدليل قد يدل ظاهره على معنى، ولكنه ليس هو المراد. وقد يكون عاماً، وقد يكون مطلقاً، وقد يكون على صيغة الأمر والنهي، فالمجتهد يصل باجتهاده إلى معرفة أن الظاهر على ظاهره أو هو مؤول، وأن العام باق على عمومه أو هو مخصص، وكذلك المطلق على إطلاقه أو هو مقيد، والأمر للإيجاب أو لغيره، والنهي للتحريم أو لغيره. وهاديه في اجتهاده القواعد الأصولية اللغوية، ومقاصد الشارع ومبادئه العامة، وسائر نصوصه التي بينت أحكاماً، وبهذا يصل إلى أن النص يطبق في هذه الواقعة أو لا يطبق.
وكذلك إذا كانت الواقعة لا نص على حكمها أصلاً ففيها مجال متسع للاجتهاد، لأن المجتهد يبحث ليصل إلى معرفة حكمها بواسطة القياس، أو الاستحسان أو الاستصحاب أو مراعاة العرف أو المصالح المرسلة.
فالخلاصة: أن مجال الاجتهاد أمران: ما لا نص فيه أصلاً، وما فيه نص غير قطعي، ولا مجال للاجتهاد فيما فيه نص قطعي.
وعلى هذا أصول التيقين الوضعي، فقد جاء كتاب أصول القوانين: الأصل، أنه ما دام القانون صريحاً فلا يجوز تأويله وتغيير نصوصه، لبناء على أن روح القانون تدعو لذلك التغيير، حتى لو كان رأي القاضي الشخصي أن النص غير عادل، لأن مرجع ذلك إلى المشرع نفسه، ومأمورية القاضي قاصرة على الحكم بمقتضى القانون لا الحكم على القانون.