والذي يظهر لي بعد المقارنة بين أدلة الفريقين وأمثلتهما وشواهدهما أنه ليس بين رأييهما اختلاف جوهري من الناحية العلمية، لأنه لا خلاف بينهما في أن العام يجب العمل بعمومه حتى يقوم على تخصيصه دليل، ولا في العام يحتمل أن يخصص بدليل، وأن تخصيصه بغير دليل تأويل غير مقبول. والقائلون بأن العام الذي لم يقم دليل على تخصيصه قطعي الدلالة على العموم، ما أرادوا بكونه قطعي الدلالة أنه لا يحتمل التخصيص مطلقاً، وإنما أرادوا أنه ل يخصص إلا بدليل والقائلون بأنه ظني الدلالة على العموم ما أرادوا أنه يخصص مطلقاً، وإنما أرادوا أنه يخصص بالدليل.
أنواع العام:
وقد ثبت باستقراء النصوص أن العام ثلاثة أقسام:
1- عام يراد به قطعاً العموم، وهو العام الذي صحبته قرينة تنفي احتمال تخصيصه، كالعام في قوله تعالى: {وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللهِ رِزْقُهَا} [هود:6] ، وفي قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} [الأنبياء:30] ، ففي كل واحدة من هاتين الآيتين، تقرير سنة إلهية عامة لا تتخصص ولا تتبدل، فالعام فيهما قطعي الدلالة على العموم، ولا يحتمل أن يراد به الخصوص.
2- وعام يراد به قطعاً الخصوص، وهو العام الذي صحبته قرينة تنفي بقاءه على عمومه وتبين أن المراد منه بعض أفراد، مثل قوله تعالى: {وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} [آل عمران:97] ، فالناس في هذا النص عام، ومراد به خصوص المكلفين لأن العقل يقضي بخروج الصبيان والمجانين، مثل قوله تعالى: {مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُم مِّنَ الأَعْرَابِ أَن يَتَخَلَّفُواْ عَن رَّسُولِ اللهِ} [التوبة:120] ، فأهل المدينة والأعراب في هذا النص لفظان عامان مراد بكل منهما خصوص القادرين، لأن العقل لا يقضي بخروج العجزة، فهذا عام مراد به الخصوص، ولا يحتمل أن يراد به العموم.