احتمالها، لأنهم إذا داوموا عليها انبتوا وانقطعوا ونالهم الضرر والأذى في أنفسهم قيام الليل، والترهب، والصيام قائماً في الشمس، والحج ماشيا، والتزام العزيمة في حال الترخيص بتركها مهما لحق من ضرر. فهذه المشقة لا يكلف الشارع بتكاليف تلابسها، ولا يلزم المكلف باحتمالها، لأن المقصد الأول رفع الضرر عن الناس، وفي التكليف بما فيه من هذا النوع من المشقة إضرار بالناس وتكليفهم بما ليس في وسعهم، وقد شعر الله أحاكم الرخص عند طروء الأعذار دفعا لهذا النوع من المشقة، فما أباح الله الفطر في رمضان لمن كان مريضا أو على سفر، وما أباح التيمم عند عدم الماء، أو حال المرض، وما أباح المحظورات عند الضرورات أو الحجات، إلا لدفع هذه المشقّات، فال يصح أن يكلف المكلف بأحكام فيها مشقات قد قصد الشارع دفعها.
فالمشقة التي من هذا النوع إذا كان يجلبها نفس العمل المكلف به فقد دفعها الله بتشريع الرخص، وإذا كان يجلبها المكلف على نفسه بإرادته فقد نهاه الله عن ذلك وحرمه عليه، ولهذا نهى الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن صوم الوصال، وعن قيام الليل كله وعن الترهيب، وقال: "أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم؛ ولكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني". وقال لمن نذر أن يصوم قائما في الشمس: "أتم صومك ولا تقم في الشمس". وقال "خذوا من الأعمال ما تطيقون"، و "القصد القصد تبلغوا"، "هلك المتنطعون"، "إن هذا الدين متين فأوغل فيه برفق ولن يشاد الدين أحدا إلا غلبه"، "إن المنبت لا أرضاً قطع ولا ظهرا أبقى". وحكم بإثم من ترك الرخص واستمسك بالعزيمة محتملا ما فيها من ضرر وقال: "ليس من البر الصيام في السفر"، وقال: "إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه".