ولا تخل الثغور من اهتمام بأمرها، تبتسم له الثغور، وإحتفال يبدل ما دجى من ظلماتها بالنور، واجعل أمرها على الأمور مقدما، وشيد منها كل ما غادره العدو متهدما، فهذه حصون بها يحصل الإنتفاع، وبها تحسم الأطماع، وهي على الدو داعية افتراق لا اجتماع، وأولاها بالإهتمام ما كان البحر له مجاورا، والعد إليه متلفتا ناظرا، لا سيما ثغور الديار المصرية، فإن العدو وصل إليها رابحا وراح خاسرا، واستأصلهم الله فيها حتى ما أقال منهم عاثرا.

وكذلك أمر الأسطول الذي ترى حبله كالأهلَّة، وركائبه سائقة بغير سائق مستقلة، وهو أخو الجيش السليماني، فإن ذاك غدت الرياح له حاملة، وهذا تكلفت بحمله المياه السائلة، وإذا لحظها الطرف جارية في البحر كالأعلام، وإذا شبهها قال: هذه ليال تقلع بالأيام.

وقد سنى لك الله من السعادة كل مطلب، وآتاك من أصالة الرأي الذي يربك المغيَّب، وبسط بعض القبض منك الأمل، ونشط بالسعادة ما كان من كسل، وهداك إلى مناهج الحق، وما زلت مهتديا إليها، وألزمك المراشد فلا تحتاج إلى تنبيه عليها، والله تعالى يمدك بأسباب نصره، ويوزعك شكر نعمه، فإن النعمة تستتم بشكره إن شاء الله تعالى.

وركب السلطان، وشق المدينة، وحمل التقليد الأمير جمال الدين النجيبي أستاذ الدار والصاحب بهاء الدين في بعض الطريق، فكان السلطان في موكبه هذا كما قيل:

خَلَعٌ خَلَعْنَ من العِداةِ قلوبَهُم ... وملأْن بالإشراق أبصارَ المَلاَ

لما طلعتَ بها بهرتَ فلم تُطق ... طرفٌ إليك من الشجاع تأمَّلاَ

وبدا عليك الطوقُ رُضْهَ دُرّة ... فرأيت بدراً بالنجوم تكلَّلا

واستخدم السلطان للخليفة ما يحتاج إليه من أرباب الوظائف والأشغال، فجعل الأمير سابق الدين بُوزَبا أتابك العساكر، وكتب له بألف فارس، وجعل الطواشي بهاء الدين صندل شرابيا، وكتب له بخمسمائة فارس، والأمير ناصر الدين بن صيرم خزندارا وكتب له بخمسمائة فارس، والأمير نجم الدين استادار الدار، وكتب له بخمسمائة فارس، وسيف الدين بلبان الشمسى دوادارا، وكتب له بخمسمائة فارس، وأمر جماعة من العربان بالطبلخانات، واشترى للخليفة مائة مملوك جمدارية وسلحدارية، وأعطى كلا منهم ثلاثة أروس خيل، وجملا لعدته، وإستخدم له أصحاب الدواوين، وكتاب الإنشاء، والأئمة، والغلمان، والحكماء، والجرائحية، وكمل البيوت، والخيول، والأسلحة.

ومنها: أن السلطان الملك الظاهر بيبرس رحمه الله توجه إلى الشام خارجا من مصر في السادس من شوال من هذه السنة، وصحبته العساكر، والخليفة، وحاشيته، والأخوة الثلاثة ملوك البلاد الشرقية أولاد صاحب الموصل: ركن الدين إسماعيل، وولده علاء الملك، وأخوه المجاهد سيف الدين إسحاق صاحب الجزيرة، وأخوهما الملك المظفر، وسنذكر مجيئهم إلى خدمة السلطان الظاهر، وكان قصد الظاهر تقرير ما تغير من القواعد، وإعادة الأحوال بدار السلام ولما وصل إلى دمشق نزل بقلعتها، وأنزل الخليفة في تربة الملك الناصر بجبل الصالحية، ولما اجتمع على تجهيز الخليفة، والملوك المذكورين، جرد معهم الأمير سيف الدين بلبان الرشيدي، والأمير شمس الدين الرومي، وهما من أكابر الأمراء، وجرد معهما طائفة من العسكر، وأوصاهما أن يزالا مع الخليفة إلى أن يوصلاه إلى الفرات بالبر الغربي، وبجهة البلاد الحلبية، لانتظار ما يتجدد من جهة الخليفة حتى إذا احتاج إليهما وأرسل من يستدعيهما يبادران إليه بمن معهما من العسكر، ولا يدعان أحداً يتوقف عنه، ولا يتأخر، ثم ودعه ميلا، والخليفة مطاعا أمره، مسروراً قلبه.

فكان جملة ما غرم السلطان على تجهيزه من الأموال ألف ألف دينار عيناً مصرية وستين ألف دينار، فلله دره من ملك، ما أعظم همته، وما أكرم سجيته، وما أشدّ اجتهاده في الله، رضى الله عنه.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015