وقال ابن كثير: ولما كان يوم الإثنين الرابع من شعبان، ركب الخليفة والسلطان والوزير والسلطان والوزير والقضاة والأمراء وأهل الحل والعقد إلى خيمةٍ عظيمة قد ضربت بظاهر القاهرة، فألبس الخليفة السلطان بيده خلعة سوداء، وطوقاً في عنقه، وقيداً في رجليه، وهما من ذهب، وصعد فخر الدين إبراهيم بن لقمان رئيس الكتاب منبراً، فقرأ عليه تقليد السلطان، وهو من إنشائه وبخط نفسه، ثم ركب السلطان بهذه الأبهة، والقيد في رجليه، والطرق في عنقه، والوزير بين يديه على رأسه التقليد، والأمراء والدولة في خدمته مشاه سوى الوزير، فشق القاهرة، وقد زينت له، وكان يوماً مشهوداً.
ونسخة التقليد المكتتب عن الخليفة للسلطان: الحمد لله الذى اصطفى الإسلام بملابس الشرف، وأظهر بهجة دُرره، وكانت خافية بما استحكم عليها من الصدف، وشيد ما وهى من علائه، حتى انسى ذكر ما سلف، وقيض لنصره ملوكاً اتفق على طاعتهم مَن اختلف.
أحمده على نعمة التي رتعت الأعين منها في الروض الأُنفٌ، وألطافه التي وفقت للشكر عليها، فلي له عنها منصرف، وأشهدُ أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، شهادةً توجبُ من المخاوف آمناً، وتسهل من الأمور ما كان حزنا. وأشهد أن محمداً عبده الذي جبر من الدين وهنا، ورسوله الذي أظهر من المكارم فنوناً لا فناً، صلى الله عليه وعلى آله. الذين أضحت مناقبهم باقية لا تفنى، وأصحابه الذين أحسنوا في الدين فاستحقوا الزيادة في الحسنى، وسلم تسليماً كثيراً.
وبعد: فإنّ أولى الأولياء بتقديم ذكره، وأحقهم أم يصبح القلمُ ساجداً وراكعاً في تسطير مناقبه وبره، من سعى فأضحى بسعيه الجميل مقدّماً، ودعا إلى طاعته فأجاب من كان منجداً ومتهماً، وما بدت يدٌ من المكرمات إلا كان لها زنداً ومعصما، ولا استباح بسيفه حمىً وغىً إلا أضرمه ناراً وأجراه دماً.
ولما كانت هذه المناقب الشريفة مختصة بالمقام العالى المولوى السلطانى الملكى الظاهرى الركنى، شرفه الله وأعلاه، ذكره الديوانُ العزيزُ النبوى الإمامى المستنصرى، أعز الله سلطانه، تنويهاً بشرف قدره، واعترافاً بصنيعه الذى تنفذ العباربةُ المسهبة ولا تقوم بشكره، وكيف لا؟ وقد أقام الدولة العباسية بعد أن أقعدتها زمانه الزمان، وأذهب ما كان لها من محاسن وإحسان، وعتب دهرها المسىء لها فأعتب، وأرضى عنها زمانها، وقد ك ان صال عليها صولة مغضب، فأعاده لها سلما بعد أن كان عليها حربا، وصرف إليها اهتمامه فرجع كل متضايق من أمورها واسعا رحبا، ومنح أمير المؤمنين عند القدوم عليه حنوّا وعطفا، وأظهر له من الولاء رغبة في ثواب الله ما لا يخفى، وأبدى من الإهتمام بامر الشريعة والبيعة امرا لو رامه غيره لامتنع عليه، ولو تمسك بحبله متمسك لانقطع به قبل الوصول اليه، لكن الله تعالى ادخر هذه الحسنة ليثقل بها في الميزان ثوابه ويخفف بها يوم القيامة حسابه، والسعيد من خفف حسابه، فهذه منقبة أبي الله إلا أن يخلدها في صحيفة صنعه، ومكرمة قضت لهذا البيت الشريف بجمعه، بعد أن حصل الإياس من جمعه.
وأمير المؤمنين يشكر لك هذه الصنائع، ويعترف أنه لولا اهتمامك بأمره لا تسع الخرق على الراقع، وقد قلدك الديار المصرية والبلاد الشامية، والديار البكرية، والحجازية، واليمنية، والفراتية، وما يتجدد من الفتوحات غورا ونجدا، وفوض أمر جندها ورعاياها اليك حين أصبحت في المكارم فردا، ولا جعل منها بلدا من البلاد، ولا حصنا من الحصون مستثنى، ولا جهة من الجهات تعد في الأعلى ولا الأدنى.