وقال الشيخ قطب الدين اليونينى: وقد رأيته ببعلبك حين حاصر قلعتها، وكان شيخاً حسناً له لحية طويلة مسترسلة رقيقة قد ظفرّها مثل الدبوقة، وتارة يعلقها في حلقة بأذنه، وكان مهيباً، شديد السطوة، قال: وقد دخل الجامع فصعد المنارة ليتأمل القلعة منها، ثم خرج من الباب الغربى، فدخل دكاناً خراباً فقضى حاجته، والناس ينظرون إليه وهو مكشوف العورة، ولما فرغ مسحه بعضهم بقطن ملبد مسحةً واحدةً.
قال: ولما بلغه بروز الملك المظفر إليه بالعساكر المصرية تلوم في أمره، ثم حملته نفسه الأبية على لقائهم، وظن أنه ينصر كما كانت عادته، فحمل يومئذ على الميسرة فكسرها، ثم أيد الله المسلمين وثبتهم، فحملوا حملة صادقةً على التتار، فهزموهم هزيمة لا تنجبر أبداً، وقتل كتبغانوين في المعركة وأسر ابنه، وكان شاباً حسناً، فأحضر بين يدى المظفر قطز فقال له: أهرب ابوك؟ فقال: إنه لا يهرب، فطلبوه فوجدوه بين القتلى، فلما رآه ابنه بكى وصرخ، فلما تحققه المظفر قال. هذا كان سعادة التتار، وبقتله ذهب سعدهم، وكذا كان كما قال: لن تفلحوا بعده أبداً.
وكان قتله يوم الجمعة الخامس والعشرين من رمضان، وكان الذى تولى قتله في المعركة الأمير جمال الدين أقوش الشمسى.
ونوين بضم النون، وكسر الواو، وسكون الياء آخر الحروف، وفي آخره نون ومعناه أمير عشرة آلاف، وكل اسم من أسماء ملوكهم في آخره نوين معناه رأس عشرة آلاف، ويسمى أيضاً رأس تومان.
الملك الناصر: الكلام فيه على أنواع: الأول في ترجمته: هو السلطان الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن الملك العزيزك محمد بن الملك الظاهر غازى بن السلطان الملك الناصر صلاح الدين يوسف ابن نجم الدين أيوب صاحب دمشق وحلب.
وكان مولده في سنة سبع وشعرين وستمائة بحلب، وكان قد تولى مملكة حلب بعد موت أبيه الملك العزيز وعمره سبع سنين، وأقامت جدته ضيفة خاتون بنت الملك العادل أبي بكر بن أيوب بتدبير مملكته، واستقل بالملك بعد وفاتها في سنة أربعين وستمائة، وعمره ثلاث عشرة سنة، وزاد ملكه على ملك أبيه وحده، فإنه ملك مثله حران والرُها وراس عين وما مع ذلك من البلاد، وملك حمص ثم ملك دمشق وبعلبك والأغوار والسواحل إلى غزة، وعظم شأنه، وكسر عسكر مصر، وخطب له بمصر وبقلعة الجبل كما ذكرنا، وكان قد غلب على الديار المصرية لولا هزيمته، وقتل مدبر دولته شمس الدين لولو الأمينى، ومخامرة مماليك أبيه العزيزية.
الثانى في سيرته: كان ملكا جيداً، حليما جداً، وجاوز به الحلم إلى حد أضر بالمملكة، فإنه لما أمنته قطاع الطريق في أيام مملكته من القطع والقتل تجاوزوا الحد في الفساد، وانقطعت الطرق في أيامه، وبقى لا يقدر المسافر إلا برفقة من العسكر، وكثر طمع العرب والتركمان، وكثرت الحرامية، وكانوا يكسرون أبواب الدور، ومع ذلك إذا حضر القاتل بين يديه يقول: الحى خير من الميت ويطلقه، فأدى ذلك إلى انقطاع الطرقات وانتشار الحرامية، وكان على ذهنه شيءٌ كثير من الأدب والشعر، ويروى له أشعار كثيرة منها قوله:
فوالله لو قطعتَ قلبى تأسفاً ... وجرعتنى كاساتِ ودمعى دماً صرفاً
لما زادنى إلا هوى ومحبة ... ولا تخذت روحي سواك لها إلفا
وكان يطبخ في مطبخه كل يوم أربعمائة رأس غنم، وكانت سماطاته وتجمله في الغاية القصوى، وبنى بدمشق مدرسة قريب الجامع وأوقف عليها وقفا جليلا، وبنى بالصالحية تربة غرم عليها جملا مستكثرة، فدفن فيها كرمون، وهو بعض أمراء التتار.