وفي ثالث اليوم من ذلك: جاءت الأمراء المقيمون بمصر وهم: نائب حلب، ونائب حماة، ونائب طرابلس، فلاقتهم الأمراء الذين بدمشق واجتمعوا، فلما نزلوا للمشورة تحققوا أن قطلوبغا نائب قازان بمن معه من العسكر قد وصل إلى قرون حماة طالباً دمشق طلباً لقلعتها، فإنه بلغه ما جرى على السرية التي غارت على أهل القريتين، وبلغه أن نائب الشام متوجهاً للقائه بعسكر الشام، فعند ذلك اجتمعت سائر الأمراء: نائب حلب قراسنقر، ونائب حماة كتبغا العادل، ونائب طرابلس أسندمر، ونائب الشام الأفرم، والأمير ركن الدين بيبرس الجاشنكير، والأمير حسام الدين الرومي، ومبارز الدين بن قرمان، وكراي المنصوري، وتغريل النوغاي، وسائر أمراء مصر والشام، على أنهم يخرجون إلى مرج دمشق ويلاقون العدو فيه، ولا يدعونهم يدخلون دمشق.
فلما انتظم الحال على هذا لم يعجب هذا الرأي الحسام الأستاذ الدار ولا تحدث معهم في هذا الرأي، فقال له بيبرس: ما لك لا تتكلم مع الأمراء؟ فهذا ليس وقت السكوت، وأنت رجل كبير ورأيت ما لا رأيناه، وجرت عليك التجاريب، فلا يحل لك أن تسكت، فإن رأيت خيراً من هذا الرأي تكلم، حتى نوافقك على هذا إن رأيناه مصلحة، وإلا فأنت تعلم شيئاً فيه مصلحة وتسكت عنه تطالب به يوم القيامة. فقال يا أمراء: أنا أقول ما أعلم أنه يخلصني عند الله تعالى، ولكن ما يعجب ذلك بعض الأمراء. قال له بيبرس: قل حتى نسمع. فقال: اعلموا أن هذا عدو ثقيل، وهو قاصدكم وطامع فيكم لكون أنكم نواب البلاد، ولا يعلم أن عسكر مصر مع السلطان، قد قربوا منكم، فمتى لاقيناهم يجري علينا ما لا نحبه من غلبة العدو علينا، فيتفرق شمل العسكر الذين تجمعوا، ويحضر السلطان والعسكر على حال الفساد، ويكون العدو خلفنا، فيتوهم عسكر السلطان، وتنكسر قلوب الناس، ويقع العتب علينا أيضاً من السلطان حيث يقول: كنتم صبرتم حتى اجتمعنا كلنا جملة، والحال أنكم سمعتم بقدومي، فلا يفيد بعد ذلك الندم، وهذا السلطان قد قرب وبقي بيننا وبينه يوم أو يومان، والمصلحة عندي أن نرجع إليه، ونجتمع بين يديه، وتكون الآراء رأياً واحداً، واللقاء جملة واحدة، ويعطي الله النصر لمن يشاء.
فلما سمع بيبرس هذا الكلام التفت إلى الأمراء فقال: والله أنا لا أخرج عن إشارة هذا، فإن الذي قاله وأشار إليه ما عليه فيه جناح عند الله، ثم قال نائب الشام للحسام الأستاذ الدار: يا أمير أنت إذا خرجت الساعة يغير العدو على دمشق من بعدك، ويضع السيف في أهلها، فماذا يكون عذرك عند الله؟ فقال له الحسام: يا أمير إن العدو إذا علم بخروج العسكر من دمشق لا يلتفت إليها، ولا يكون عزمه إلا على اللحوق بالعسكر ويقول: إن دمشق في يدنا، ومع هذا يتوهم عن خروج العسكر.
فلما سمع الأمراء هذا الكلام منه أمروا ساعتئذ بقلع الخيام والركوب، ونادى المنادي بالرحيل، فوقع الصوت في دمشق، فتحير أهلها ودهشوا بحيث لا يغفل الوالد على ولده، ولا الولد على والده، وسيبت النساء والبنات، وغلت أسعار الجمال والحمير، فبلغ كل حمار كان يساوي مائة بخمسمائة وستمائة، وكل جمل كان يساوي ثلاثمائة بيع بألف وأكثر، وفي الناس من نجا بنفسه وخلى حريمه، ومن كان ظهره ثقيلاً طلع القلعة، وما جاء الليل إلا ودمشق يبكي عليها ويندبها النوادب.
وأما الجند والعسكر فإن أحداً منهم لا يلتفت إلى رفيقه ولا إلى خشداشه، ولا ينظر المملوك إلى أستاذه، وخرجت الغلمان والحمالة على وجوهها، والصناديق التي فيها الأكل والحلواء يرمونها لأجل الخفة، وكان يوماً عظيماً، وأما فقراء دمشق ومشايخها وصلحاؤها وفقهاؤها وقضاتها، فقد اجتمعوا بالجامع الأموي، ووطنوا أنفسهم على الموت، وكشفوا رؤوسهم يتضرعون إلى الله تعالى ويبكون، ولم يزالوا كذلك إلى أن طلع الفجر، ولاحت للناس مواكب العدو وجحافله، وقد رجعوا عن دمشق وركبوا أعالي الغوطة، ففرحت الناس لذلك وعلموا أن الله قد استجاب دعاءهم ورحمهم.