قال: والتفت إلي الشيخ وقال لي: يا فتح الدين عقبى هذا الرجل إلى التلاف. قال: فوالله كان بين ذلك الكلام وقتله واحد وعشرون يوماً، فإنه صار يقع في حق القاضي زين الدين بن مخلوف قاضي القضاة المالكية ويسبه، ويبلغه ذلك عنه، وبلغ من أمره إلى أن شهدت عليه عنده جماعة كثيرة ممن حضروه: أنه كان عزم على جماعة في بيته وأطعمهم طعاماً، وأنه قام إلى رف عنده في البيت يتناول منه شيئاً فقصرت يده عنه، فوضع الكتاب العزيز تحت رجليه ليطول إلى الرف، فقاموا وأنكروا عليه، فشرع في سبهم بأنهم ناس حمير، ثم تلفظ بعد ذلك بالكفر، فشهدوا عليه عند القاضي زين الدين، وكتبوا محضراً بأمور، ثم أتوا بها إلى قاضي القضاة تقي الدين، فلما وقف عليها قال: ما المراد من هذا؟ قالوا: يا سيدي إثباتها. قال: ما أفتي في رجل يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ورماها من يده، فتوقف حال إثباتها.
وسعت جماعة كثيرة ممن كانوا يعنون بابن البققي من جملتهم ناصر الدين الشيخي وجماعة من أكابر القبط وغيرهم وسألوا القاضي زين الدين في أمره أن يستتيبه، وسعوا فيه بشيء كثير حتى أرادوا أن يثبتوا له جنوناً ليتخلص من هذه الورطة، فكتبوا محضراً وشهدت فيه جماعة كثيرة ممن يسمع قولهم، وأرادوا أن يثبتوه على قاضي القضاة الشيخ تقي الدين لما رأوا عنه الإعراض من إثبات كفره، وفهموا أيضاً أن للشيخ به عناية، فأحضروا المحضر إليه، فلما وقف عليه رفع رأسه وقال: من يجعل المولى فتح الدين مجنوناً؟ ما نعرفه إلا رجلاً عاقلاً، ثم لما أحضروا المحضر إلى القاضي زين الدين ونظر فيه خلاه إلى جانب منه وتفكر في أمره، واقتضى رأيه أنه يصلي تلك الليلة صلاة الاستخارة ويسأل الله في أمره، فلما نام تلك الليلة رأى كأن جماعة جاءوا إليه وبينهم كلب أسود زوبري قدر الكبش، وفي رقبته طوق وزنجير وهم يقودونه إليه، ثم قتلوه وألقوه في حفرة وهو يراه، فلما استيقظ حمد الله تعالى على تلك الرؤيا، وأصبح عازماً على قتله.
ولما فتح بابه وجد شخصاً من طلبته جالساً على الباب، فسلم عليه وناوله ورقة مكتوب فيها من شهاب الدين الأعزازي الشاعر وأخبر أن شهاب الدين المذكور حضر إلى بيته وقت الآذان وأعطاه هذه الورقة وقال: عرف قاضي القضاة ما انتظاره في هذا الزنديق، وفيها من شعره:
قل للإمام العادل المرتضى ... وكاشف المشكل والمبهم
لا تمهل الكافر واعمل بما ... قد جاء في الكافر عن مسلم
فلما وقف عليها تبسم وقال: شاعر ومكاشف، هكذا عزمنا إن شاء الله.
وكتب وهو في سجن المالكي إليه من شعره:
يا من يخادعني باسهم مكره ... بسلاسل نعمت كلمس الأرقم
اعتد لي زرداً تضايق نسجه ... وعلى فكي عيونها بالأسهم
وأرسلها إليه، فوقف عليها وقال: نرجو أن الله لا يمهله لذلك، ثم اجتمع هو والقاضي زين الدين السروجي، وشاوروا السلطان، وعرفوه زندقته وكفره، وكان قد بلغ السلطان أمره، فتحدث السلطان بكلام فهم القاضي منه المهلة عليه، فانزعج القاضي لذلك وقال: هذا الرجل ثبت عندي كفره وزندقته، وقد وجبت عندي إراقة دمه، فلما رأى السلطان تصميم القاضي قال: إذا كان لا بد فاعقدوا له مجلساً بحضور الحكام، فإذا وجب عليه أمر شرعي افعلوه، ورسم لناصر الدين بن الشيخي والحاجب بأن يحضرا المجلس، فجلست القضاة والأمراء في شباك الصالحية وطلبوه من السجن، وشقوا به بين القصرين، وهو بزنجير في رقبته، مكشوف الرأس، وهو يستغيث: يا قوم أتقتلون رجلاً يقول ربي الله ويعلن بالشهادة، إلى أن وصل إليهم، ووقعت الدعوى والإنكار، وأخرجوا الشهادة عليه والإثبات بكفره، فنهض القاضي السروجي وهو ينشد:
لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى ... حتى يراق على جوانبه الدم