وهم في ذلك إذ وصل مملوك من نائب حلب ومعه اثنان من الناصحين، وأخبروا أن قازان ركب بجيشه إلى أنطاكية، ثم إلى جبل السماق ورجع إلى قرون حماة وأرض شيزر، ونهب وسبى خلقاً كثيراً، وأخذ مواشي كثيرة للتركمان وأهل البلاد، وأن صاحب سيس بذل له مالاً عظيماً في شراء أسرى كثيرة من المسلمين، وأنه صمّم على عبوره الشام، فأرسل الله على جيشه أمطاراً عظيمة وثلوجاً لم يعهدوا مثلها قبل ذلك، ومع ذلك وقع الفناء في خيولهم، وكان الفرس منهم يصيبه البرد وينزل عليه الثلج فيقع على الأرض، ثم لا ينتفع به بعد ذلك، وحكوا أن قازان كان معه خصوصاً اثني عشر ألف رأس من الخيل دشار، فلم يبق منها إلاّ ما دون الألف، وأنه لما رأى ذلك استشار أمراءه في الرجوع، فرجعوا في أسوأ حال، وتفرق عسكره، ورآه يردف بعضهم بعضاً، فلما سمع السلطان والأمراء ذلك اقتضى رأيهم أن يجردوا بعض المقدمين بمضافيهم إلى حلب لأجل تطمئن البلاد ولسمعة العدو بأن عسكر مصر قد وردوا للقائهم، فعينوا الأمير سيف الدين بكتمر السلحدار ومضافيه، والأمير بهاء الدين يعقوب ومضافيه، وأشاروا برحيل بقية العساكر إلى مصر.
ثم رحل السلطان ببقية العسكر وتوجهوا إلى مصر، فوصل السلطان إلى قلعة الجبل في عاشر جمادى الأولى، وكان العود أحمد وأولى.
واستعفى الأمير سيف الدين كراي السلحدار من نيابة صفد، ورسموا بنيابتها للأمير سيف الدين بتخاص، وأنعم على الأمير كراي بإقطاع الأمير سيف الدين بلبان الطباخي بحكم وفاته.
وكان عند العسكر فرح عظيم من رجوع السلطان إلى القاهرة بسبب ما قاسوا من الشدة والقلة، وقال بعضهم في ذلك:
أقمنا على العوجاء خمسين ليلةً ... ندبر أمراً قد حكاه انعواجها
وقال صاحب النزهة منشداً لنفسه:
يا سفرة العوجاء من سفرة ... كادت بها أرواحنا تخرج
سماؤها ممطرة دائماً ... وغيثها من برده يثلج
والشمس في أركانها ظلمة ... وصحبها مع ليلها مدلج
لا برح الجندي من أرضها ... إلاّ عليل الجسم أو أفلج
وقال ابن كثير: ولما وصلت الأخبار إلى الشام بأن السلطان صاحب مصر قد رجع عائداً إلى مصر، كثر الخوف واشتد الحال، وكثرت الأمطار جداً، وخرج كثير من الناس خفافاً وثقالاً يتحملون بأهاليهم وأولادهم، والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون، ثم قويت الأراجيف بوصول التتار، وتحقق أهل الشام عود السلطان إلى مصر، ونادى ابن النحاس متولي دمشق في الناس: من قدر على السّفر فلا يقعد بدمشق، فتصايح النساء والولدان، وبقي على الناس ذلة وخمدة وزلزلوا زلزالاً شديداً، وغلقت الأسواق، وتيقن الناس أن لا ناصر لهم، ودخل كثير من الناس إلى القلعة ولم يبق في دمشق من الأكابر إلاّ القليل، وسافر قاضي القضاة بدر الدين بن جماعة وشمس الدين بن الحريري، ونجم الدين ابن صصري، ووحيد الدين بن منجا، وقد كانت سبقتهم بيوتهم إلى ديار مصر.
وجاءت الأخبار بوصول التتار إلى سرمين، وخرج الشيخ نجم الدين بن القرافي، وابراهيم الرقي، وابن قوام، وابن تيمية، وابن حيان إلى نائب السلطنة الأفرم، فقووا عزمه على ملاقاة العدو، واجتمعوا بمهني أمير العرب، فأجابه إلى السمع والطاعة، وقويت نياتهم على ذلك، وخرج طلب الأمير سلار من دمشق إلى ناحية المرج، واستعدوا للحرب والقتال بنيات صادقة.
ورجع ابن تيمية من الديار المصرية في السابع والعشرين من جمادى الأولى على البريد، وقد أقام بقلعة مصر ثمانية أيام، واجتمع بالسلطان والوزير وأعيان الدولة وحرضهم، فأجابوه، وكان الشيخ قد خرج من الشام مستهل جمادى الأولى، وقد غلت الأسعار بدمشق جداً حتى أنه بيع خروفان بخمسمائة درهم، واشتد الحال جداً.
ثم جاءت الأخبار بأن ملك التتار قد خاض الفرات راجعاً في عامه ذلك لضعف جيشه وقلة مدده، فطابت الأخبار، وسكن الناس، ورجعوا إلى منازلهم منشرحين آمنين، ولله الحمد رب العالمين، وعاد نائب السلطنة إلى دمشق من المرج، وكان فيه مخيماً مدة أربعة شهور متتابعة، وكان هذا من أعظم الرباط، وتراجع الناس من الحصون حول دمشق إلى أوطانهم.