وردت القصاد في أوائل هذه السنة من بلاد الشرق وأخبروا أن قازان ملك التتار قد بلغه أن قفجق التحق بمصر إلى السلطان بمن معه من الأمراء، وسلم إليه دمشق، وخطب للسلطان صاحب مصر، وأبطل اسمه، فعز عليه ذلك، ورسم أن يجمع جيشه للعبور إلى الشام، وكان قد حنق على قفجق، وجمع المغول واستشارهم، فمنهم من أشار عليه بالركوب، ومنهم من قال له: يا خوند الذي حصل لك ما حصل لأحد من ملوك المغول حيث نصرت على عسكر ما عرف قط أنه انهزم من المغول، وقد بقي لك في نفوسهم هيبة، وما في الاستعجال في الركوب إليهم فائدة، فربما يكون بعد الربح الخسران، ولا تأمن أن ينصروا علينا، والمصلحة أن تبعث إليهم رسلاً في ذلك وتطالبهم أن يحملوا لك مالاً ويكون ذلك راحة للعسكر وحرمة للملك.
ثم تواترت مطالعات نواب الشام بأن التتار قاصدون البلاد، ووقع الجفل في أهل البلاد إلى الديار المصرية، وتتابعوا من جميع الأعمال حتى ملأوا الأقاليم والنواحي، وضاقت بهم الأماكن، وعجز أكثرهم عن المساكن، وظن الناس أنهم يعدمون الأقوات، فوضع الله البركة في الغلال، وأنزل الرخاء في الأسعار، فكانوا كلما تكاثروا انحطت الأسعار حتى أبيع الأردب من القمح بخمس عشرة درهماً.
وقال ابن كثير: وفي مستهل صفر وردت الأخبار بقصد التتار بلاد الشام، وأنهم عازمون على دخول مصر وانزعج الناس، وازدادوا ضعفاَ على ضعفهم، وطاشت عقولهم وألبابهم وشرعوا في الهروب إلى مصر والكرك والحصون المنيعة، فبلغت الحمارة إلى مصر خمسمائة درهم، وأبيع الجمل بألف، والحمار بخمسمائة، وبيعت الأمتعة بأرخص الأثمان وأبخسها، وجلس الشيخ تقي الدين بن تيمية في ثاني صفر بمجلسه في الجامع، فحرض الناس على القتال، وتلا عليهم الآيات والأحاديث الواردة في ذلك، وهي عن التسرع في الحركة، ونودي في البلدان لا يسافر أحد إلا بمرسوم، فتوقف الناس عن السير، وسكن جأشهم، وتحدّث الناس بخروج السلطان من القاهرة بالعساكر المنصورة، فبلغ السلطان ذلك، فقصد أن يجمع مالاً من الناس لأجل العساكر.
لما جرى ما ذكرناه اجتمعت الأمراء عند السلطان وتشاوروا فيما بينهم، واتفقوا على تجهيز أمرهم، وخروج السلطان مع العساكر، وأن يجمعوا مالاً يكون في الخزانة برسم نفقات العساكر، وكتبوا لنائب الشام أن يدبّر أمره ويستخدم بطّالين إلى وقت حضور السلطان، وطلبوا ناصر الدين محمد بن الشيخي، وأمروه أن ينظر في أمر التجار والكارم والأكابر، ويتفقد أيضاً من لم يخرج مع العسكر في النوبة الأولى، فيأخذ منهم شيئاً، ثم اتفق رأيهم أن يعرضوا الجيش، وذلك لأنهم استجدوا جماعة كثيرة من الجند، وكان فيهم جماعة كثيرة من أهل الصنائع والناس المجمعين، فطلب مقدمي الحلقة وأمروهم أن يحضروا الأجناد راكبين خيولهم وأرماحهم بأيديهم ويدخل كل واحد ويعرض نفسه لينظر الأمراء إلى حملة الرمح وسوقة الفرس، ويعرفون بذلك هل هو أصيل في الجندية أو دخيل فيها، وأيضاً يعرف المقدمون من كان منقطعاً يوم الواقعة الأولى ومن كان حضرها، وكان الأمراء نصبوا لهم مخيماً بميدان القبق، وأقاموا أياماً يعرضون الجيش في كل يوم عشر مقدمين من الحلقة بمضافيها.
وأما أمر المال فإن السلطان والأمراء قصدوا التوسع بشيء يعين على كلف العساكر، وسمّوا بتقدير مال على الأملياء والتجار وأرباب المعايش والأسباب بالقاهرة ومصر، فقرر، وتولاّه الأمير سنقر المعروف بالأعسر، والأمير ناصر الدين محمد الشيخي متولي القاهرة، فاستخرجا منه نحو مائة ألف دينار، وسّمي مقرر الخيانة.