لما جرى ما جرى من انهزام الجيش السلطاني وصل السلطان الناصر إلى القاهرة وصحبته الأمير سيف الدين سّلار، والأمير ركن الدين الأستادار، والأمير سيف الدين بكتمر أمير جاندار، ومن يلوذ به، وطلعوا القلعة في العشر الأخير من ربيع الآخر.
وقال صاحب النزهة: وكان ذلك اليوم يوم الأربعاء بكرة النهار الثاني عشر من ربيع الآخر، وكان المصاف الكائن بينهم يوم الأربعاء الثامن والعشرين من ربيع الأول بين الصلوتين، وتواردت بعده الأمراء المتأخرون والأجناد المنقطعون، وآخر من حضر كان أمير سلاح والطباخي وتغريل الأيغاني وهم الذين كانوا سافروا على الساحل وحملوا العسكر، وحملوا من وجدوه من المنقطعين، ووقع عند وصولهم في قلوب الخلق توجع كثير وأسف وبكاء، وأقاموا المأتم على من فقد، وأقاموا أياماً في الحزن والنياح على من فقد من الأمراء إلى أن منعوا من جهة السلطنة.
وقال بيبرس في تاريخه: وصل الأمير سيف الدين بلبان السلحدار المنصوري المعروف بالطباخي نائب السلطنة بالمملكة الحلبية وصحبته العسكر الحلبي، وكان عبورهم على جانب الساحل من جهة طرابلس، وصادفوا المضيق، وقاسوا مشقة عظيمة من وعر الطريق، وخرج عليهم الجبلية ونهبوا منهم جماعة وقتلوا جماعة، ووصل الأمير جمال الدين أقوش الأفرم نائب السلطنة بالشام ومعه العسكر الدمشقي، والأمير سيف الدين كراي المنصوري نائب السلطنة بصفد وصحبته العسكر الصفدي، وحضر بعدهم الأمير زين الدين كتبغا المنصوري من صرخد، وعبر في طريقه بالكرك وترك بها عائلته وأولاده، وأقبلت العساكر السلطانية واجتمعوا بالقاهرة.
وقال صاحب النزهة: الأمير زين الدين كتبغا هذا قد كان تولى السلطنة وتلقّب بالملك العادل كما تقدم ذكره، ثم لما خلعوه ولّوه نيابة صرخد، فلما دخل العدو البلاد ووصل السلطان الناصر والأمراء إلى دمشق تكلموا في أمر حضوره، فلم يعجب الأمراء حضوره وسيروا إليه، فطلبوا مماليكه وعرّفوه أنهم أعفوه من الحضور ليحفظ قلعته، فسير إليهم جماعة من مماليكه، فحضروا المصافّ، فلما اتفق ما اتفق، نزل من صرخد وسافر على البريد إلى مصر، وكان يجلس مع الأمير سيف الدين سلار والأمير ركن الدين بيبرس ويأخذ المرملة ويرمّل على العلامات التي يكتبها نائب السلطان فكان سلار يسأله أن يعفيه من ذلك، وكان كتبغا يحلف أن لا بد أن يفعله، فكانت الناس إذا رأوا ذلك يتعجبون من صنع الله تعالى وعظمة قدرته أن سلار وغيره من الأمراء الكبار وأصحاب الوظائف كانوا في خدمة كتبغا وهو سلطان يتخدمون له ويتضرعون إليه في الأمور، ثم قلب الله ذلك حتى صار كتبغا في خدمة سلار الذي هو أمير وليس بسلطان، ويرمّل على ما يكتبه من العلامات، ويسأله في أشغال كثيرة سؤال مملوك مخدومه، وهذا من غرائب الزمان وعجائب الدهر، فسبحان المعزّ والمذلّ.
ومن العجائب أن كتبغا هذا عرضوا عليه جوشناً في أيام دولته وقد أعطى فيه بيبرس الجاشنكير أربعة آلاف درهم، فلما رآه كتبغا قال للدلال: كم جاب هذا الجوشن؟ قال: يا خوند أربعة آلاف درهم على بيبرس الجاشنكير. قال: وهذا يصلح لذاك الخرياطي؟ فأخذه ووزن ثمنه، ومرت الأيام إلى أن اتفق لكتبغا ما اتفق ونفي إلى الشام ووقعت الحوطة على جميع حواصله، ووجد ذلك الجوشن في حاصله، فأخذه لاجين، ثم انتقل بالعطاء من يد إلى يد حتى وقع في يد بيبرس فعرفه وأخذه، وجعله في حاصله إلى أن اتفق حضور كتبغا بعد هذه الوقعة، ولما اجتمع بالأمراء أراد بيبرس ينكي كتبغا، فأرسل من يحضر بالجوشن المذكور، فلما حضر به قام بيبرس ولبسه، والأمراء كلهم حاضرون وكتبغا فيهم، ثم نظر بيبرس إلى كتبغا وقال: يا أمير إش تقول؟ يصلح لي هذا الجوشن فألبسه أم لا؟ فنظر إليه كتبغا ولم يعلم ما في نفس بيبرس مما قصده من إنكائه. فقال: والله يا أمير هذا كأنه قد فصّل لك، ولو لبسه غيرك ما لاق به، فنظر بيبرس إلى الأمراء وتغامزوا، وعلم كل منهم ما قصده بيبرس فيما فعله، وهذا الذي اتفق لكتبغا لم يسمع في دولة من الدول، فسبحان الفعال لما يريد.