ولما حلف لهم على ما شرطوه، وعاهدهم على ما طلبوه، قال له الأمير قفجاق: نخشى أنك إذا جلست في المنصب تنسى هذا التقرير، وتقدم الصغير من مماليكك على الكبير، وتخول منكوتمر مملوكك في التحكيم والتدبير، فتتصل، وكرر الحلف أنه لا يفعل، وعند ذلك حلفوا له، ورحلوا نحو الديار المصرية.
فلما وصل إلى القلعة واستقر قراره رتب الأمير شمس الدين قرا سنقر المنصوري نائبا، والأمير سيف الدين بهادر الحاج حاجبا، والأمير سيف الدين سلار أستاذ الدار، والأمير سيف الدين بكتمر السلحدار أمير جاندار، واستمر الصاحب فخر الدين بن الخليلي بالوزارة برهة ثم عزله بالأمير شمس الدين سنقر المعروف بالأعسر، ورتب في نيابة السلطنة بدمشق سيف الدين قفجاق، وتوجه إليها، ودخلها في السادس عشر من ربيع الأول منها.
قال ابن كثير: ثم دخلت سنة ست وتسعين وستمائة والخليفة الحاكم العباسي وسلطان البلاد العادل زين الدين كتبغا، وهو في نواحي حمص يتصيد، ومعه نائب الديار المصرية حسام الدين لاجين السلحدار المنصوري وأكابر الأمراء ونائب دمشق الأمير سيف الدين غرلو العادلي، ولما كان يوم الأربعاء ثاني المحرم دخل العادل إلى دمشق ضحى من نواحي حمص، وصلى الجمعة بالمقصورة، وزار قبر هود عليه السلام، وصلى عنده، وأخذ من الناس قصصهم بيده، وجلس بدار العدل يوم السبت، ووقع على القصص هو ووزيره فخر الدين بن الخليلي، ثم حضر السلطان دار العدل يوم الثلاثاء، ثم صلى الجمعة بالمقصورة يوم الجمعة، ثم صعد في هذا اليوم إلى مغارة الدم وزارها، وتصدق بجملة من المال، ثم خرج بالعساكر المنصورة من دمشق سحرة يوم الثلاثاء الثاني والعشرين من المحرم وخرج معه الوزير ابن الخليلي، وفي يوم الأربعاء آخر يوم من المحرم منها تحدث الناس بينهم بوقوع تخبيط بين العساكر وتخلف وتشويش، فغلق باب القلعة، وركبت طائفة من الجيش على باب النصر وقوفا.
وقال: فلما كان وقت العصر وصل الملك العادل إلى القلعة في خمسة أو ستة من مماليكه فجاء إليه الأمراء، وحضر ابن جماعة وحسام الدين الحمامي، وجدد تحليف الأمراء فحلفوا له، فخلع عليهم، وأمر بالاحتياط على نواب الأمير لاجين وحواصله، وأقام العادل بالقلعة هذه الأيام.
وكان الخلف الذي وقع بينهم بوادي فحمة يوم الاثنين الثاني والعشرين من محرم هذه السنة، وذلك أن الأمير حسام الدين لاجين قد واطأ جماعة من الأمراء في الباطن بعزل العادل، ووثق منهم، فأشار على العادل - حين خرجوا من دمشق - أن يستصحب معه الخزانة، وذلك أنه لا يتقوى بها إن رجع إليها، وتكون قوة له في الطريق على ما قد عزم عليه من الأمور.
فلما كانوا بالمكان المذكور قتل لاجين الأمير سيف الدين بتخاص، وبكتوت الأزرق النابلسي، وأخذ الخزانة بين يديه والعدد، وقصد ديار مصر، فلما سمع العادل بذلك خرج من الدهليز، وساق جريدة إلى دمشق، فدخلها كما ذكرنا، وتراجع بعض مماليكه كزين الدين أغليك وغيره. وأقام السلطان بالقلعة لا يخرج منها، وأطلق كثيرا من المكوس، وكتب بذلك تواقيع، وقرئت على الناس، وغلا السعر جدا.
ولما دخل لاجين إلى مصر دخلها في أبهة عظيمة، وتابعه الأمراء، وملك عليهم، وجلس على سرير الملك يوم الجمعة العاشر من صفر، ودقت البشائر، وزينت البلد، وخطب له على المنابر، والقدس، والخليل، والكرك، ونابلس، وصفد، وذهبت إليه طائفة من أمراء دمشق، وقدمت الجريدة من جهة الرحبة صحبة الأمير سيف الدين كجكن، فلم يدخلوا البلد، بل نزلوا بميدان الحصى، وأظهروا مملكة المنصور لاجين صاحب صاحب، وركبت إليه الأمراء طائفة بعد طائفة، وفوجا بعد فوج. فقوى أمر المنصور وضعف أمر العادل.
فلما رأى انحلال أمره قال للأمراء: هو خشداشي، وأنا وهو شيء واحد، وأنا سامع له مطيع، وأنا أجلس في أي مكان من القلعة حتى تكاتبوه، وتنظروا ماذا يقول.
وجاءت البريدية بالمكاتبات تأمر بالاحتياط على الطرق، وعلى الملك العادل، وبقى الناس في هرج وأقوال مختلفة، وأبواب المدينة مغلقة سوى باب النصر وباب القلعة أيضا، والعامة حول القلعة حتى سقط منهم طائفة في الخندق، فمات بعضهم.
وقد أعلن باسم الملك المنصور لاجين ودقت البشائر بذلك بعد العصر، ودعا له المؤذنون في سحر ليلة الأحد بجامع دمشق، وتلوا قوله تعالى: " قل اللهم مالك الملك " الآية.