وذكر بيبرس في كتابه المسمى باللطائف: أنهم قتلوا ثلاثين نفرا، فلما سمع السلطان بذلك غضب لله ولرسوله عليه السلام، وأرسل إليهم بالإنكار واسترجاعهم عن الغدر والإضرار، فأبوا إلا التمادي والإصرار، وإبداء الأعذار بما لا يقبل. فتأهب السلطان عند ذلك لقصدهم، وتجهز للسفر وأمر العساكر بالتجهيز، وخرج من القلعة وخيم على مسجد التبر في العشر الأخير من شوال، واستخلف بالقلعة: ولده الملك الأشرف خليل، والأمير زين الدين كتبغا نائب السلطنة، وكان قد أعاد الأمير علم الشجاعي إلى الوزارة، وكان أمر أيضا لنائب الشام أن يعمل مناجيق وزردخاناه لأجل حصار عكا. وكان قد سفر بسبب ذلك الأمير عز الدين الأفرم أمير جاندار، وكان قد أفرج أيضا عن الأمير علم الدين سنجر الحلبي في شوال، وكانت مدة اعتقاله ست سنين، ولما خرجت العساكر ولم يبق إلا الرحيل عاقه القدر عما يرومه، وأدركه أمر الله، فتوفى إلى رحمة الله تعالى.
توفى في المخيم بمسجد التبر ظاهر القاهرة يوم السبت السادس من ذي العقدة من هذه السنة، وسببه أنه لما نزل موكبه بالدهليز لحقه من نهاره جريان الجوف بالإسهال، واشتد به المرض وهو بالخيام، ولم يلبث إلا خمسة أيام وتوفى إلى رحمة الله، كذا ذكره بيبرس في كتابه اللطائف.
وقال النويري: ابتداء مرضه في العشر الأواخر من شوال بعد نزوله في الدهليز في المكان المذكور، وتزايد به المرض حتى توفى في التاريخ المذكور.
وقال غيره: وجد السلطان في جسده توعكا ليلة نزوله من القلعة، ودخل الأمراء عليه، فدعوا له، وتزايد به الألم، وصار ولده الأشرف كل يوم ينزل من القلعة فيقيم عنده إلى ما بعد العصر، ثم يرجع ويبيت في القلعة، فبقى على ذلك من العشر الأخير من شوال إلى العشر الأول من ذي القعدة وألمه يتزايد، وكان الأمراء يدخلون عليه، ويقعدون عنده فلما زاد ألمه منع الأمير طرنطاى - أتابك العساكر - الأمراء من الدخول عليه، فصار يدخل عليه بمفرده ويخرج بالسلام للأمراء، فلما قوى به المرض اجتمع كبار مماليكه الأمراء مثل كتبغا وأيبك الخازندار وغيرهما عند الأمير طرنطاى، وأفاضوا بينهم الأمر والرأي وقالوا لطرنطاى: أنت تعلم أمرك مع الأشرف، وبغضه فيك، والأمر صائر إليه، والسلطان ما بقى فيه رجوة، وتعلم أيضا ما بينك وبين الشجاعي من البغضاء، وهو قاتلك بلا محالة وينجر الأمر إلينا، وما يخلى منا أحدا، فخذ لنفسك قبل استحكام الأمر، فسكت ساعة، وقال: والله العظيم لا يسمع أني خنت أستاذي، ولا ولده من بعده، ولا عملت فتنة بين المسلمين، وإذا صار الأمر إليه، فإن رضينى كنت مملوكه، وإن قتلني كنت مظلوما، وكان مقضى كائن.
وكان طرنطاى قد عرف الجمدارية الذين حول السلطان أنه إذا عرض عليه عارض يعرفوه. فلما تزايد به المرض، وظهر منه ما يدل على الموت يدخل إليه، فأعلموه بذلك، فدخل عليه، فوجده في النزع، فقعد عند رأسه حتى توفى إلى رحمة الله، وغمضه، وقصد المماليك أن يصيحوا ويبكوا، فمنعهم من ذلك، وقال لهم: اكتموا أمره.
وقعد على عادته بباب الدهليز، وحضر الأمراء فأعطاهم دستورا، وأسر لسنقر الأشقر بالجلوس بمفرده، فلما ذهب الأمراء أخبره بموت السلطان، واستشاره فيما يفعله. فقال له: مهما اخترت تعمل فنحن بين يديك، فقال له: قم إلى خيمتك، والمقضى كائن.
فما تضاحى النهار حتى وقع الصوت بين الخيم بموت السلطان، وذلك يوم السبت السادس من ذي القعدة.
وعند ذلك ركب طرنطاى، وطلب الحجاب، وأمرهم أن يعرفوا الأمراء أن يركب كل أمير ويقف مكانه، ولا يتعداه حفظا لأحوالهم، ثم طلب الطواشى مرشد، مقدم المماليك السلطانية، ورسم له أن يركب وصحبته المماليك السلطانية، وأن يكونوا مع ولد السلطان بالقلعة.
فركب الطواشى، وركبت المماليك معه، وتوجهوا إلى القلعة، فوافوا الأشرف خليل وهو نازل من القلعة، وعرفه الطواشى بموت السلطان، فرجع إلى القلعة.
وأقام الأمير طرنطاى هناك إلى المغرب، حتى شالوا الخزانة، والأطلاب جميعها وأرسلهم إلى القلعة، ثم حمل السلطان في تابوت إلى أن أدخل القلعة، وظل بالقصر في قاعته الكبرى حتى غسل ودفن بتربته ببين القصرين.