قال بيبرس: وفى هذه السنة عزم الملك المعزّ على قتله، واتفق مع مماليكه على حيلة، فلما كان في شهر شعبان أرسل إليه يستدعيه مُوهِماً له أنه يستشيره فى مهمات من الأمور، ويعرض عليه آراء من التدبير، وقد كمن له كمينا من مماليكه وراء قاعة الأعمدة بالقلعة، وقرر معهم أنه إذا مر مجتازا بالدهليز يبتدرونه بُسرعة ويعاجلونه بالصرعة، فلما وردت إليه رسالة المعزّ بادر بالركوب في نفر يسير من مماليكه من غير أن يُعلم أحدا من خوشداشيته، لثقته بتمكن حرمته، وطلع القلعة آمنا، ولم يدر بما كان له كامناً، فلما وصل إلى باب القلعة منع مماليكه من الدخول معه، ووثب عليه المماليك المعزيَّة فَعلَوه بالمشرفيّة، وأذاقوه كأس المنيَّة، وقتلوه على مكانته، ولم يُنجدَه أحد من بطانته.
وفي تاريخ النويرى: وفى هذه السنة اغتال الملك المعزّ أيبك التركمانى المستولى على مصر خشداشة الفارس أقطاي الجمدار، وأوقف له في بعض دهاليز الدور التى بقلعة الجبل ثلاث مماليك وهم: قُطُزْ وبهادُر وسنجر الغتمى، فلما مرَّ بهم أقطاى ضربوه بسيوفهم فقتلوه.
ويقال له: أقطايا، كان من مماليك السلطان الملك الصالح نجم الدين أيوب، وكان أحد الجمداريَّة عنده ثم ترقت به الحال إلى ان استولى على الديار المصرية، وتقدم على البحرية الذين أهلكوا الناس.
وقال ابن واصل: وكان أقطاى إذا ركب يقتل بين يديه جماعة بأمره، وكانت خزائن مصر بيده، وكان أصحابه يأخذون أموال الناس وحريمهم وأولادهم أخذا باليد، ولا يقدر أحد على منعهم، ويدخلون حمامات النساء فيأخذون منهنّ مَن يختارون.
وكان أقطاى يمنع الملك المعزّ أيبك من الاستقلال بالسلطنة، وكان الاسم للملك الأشرف موسى بن يوسف بن الملك الكامل بن العادل بن أيوب، فلما قتل أقطاي استقلَّ أيبك بالسلطنة، وأبطل الأشرف المذكور بالكليَّة، وبعث به إلى عمَّاته القطبيات، والأشرف المذكور آخر من خُطب له فمن بيت بني أيوب بالسلطنة في مصر، وكان انقضاء دولتهم من الديار المصرية في هذه السنة.
المذكور
ولما شاع الخبر بموته قتيلا، وبلغ خوشداشيته الأمر ضاق بهم الفضاء، وحاق بهم الفضاء، وتحققوا أنهم متى تلبثوا أخذوابالنواصى والأقدام، وأُلحقُوا به في الإعدام، فأجمعوا أمرهم على التوجه إلى الشام، وكان منهم من الأمراء الأعيان: الأمير ركن الدين بيبرس البندقدارىّ، والأمير سيف الدين قلاوون الألفى، والأمير شمس الدين سنقر الأشقر، والأمير بدر الدين بيسرى الشمسى، والأمير سيف الدين سكُز، والأمير سيف الدين برامُق، وغيرهم، فرأوا الرواح خيرا من الإقامة، واتفقوا وخرجوا ليلا فوجدوا باب المدينة الذي قدصوا الخروج منه مغلقاً، فأضرموا فيه نارا، وهو الباب المعروف بباب القراطين، وتوجهوا على حميَّةٍ نحو البلاد الشاميَّة، وقصدوا الملك الناصر يوسف صاحب دمشق وحلب ويغرهما ليكونوا عنده من جملة العساكر، ولما أصبح المعزّ بلغه تسحبهم من المدينة، فأمر بالحوطة على أملاكهم وأموالهم ودورهم وغلالهم ونسوانهم وغلمانهم وأتباعهم وأشياعهم، واستصفيت اموالهم وذخائرهم وشونهم، واستتر من تأخرَّ منهم، واختفى من انقطع من الأتباع عنهم، ونودى عليهم في الأسواق والشوارع والطرقات والقوارع بتهديد من يأوى منهم أحد عنده، وتمكن الملك المعزّ من المملكة، وارتجع ثغر الإسكندرية إلى الخاصة السلطانية، وأبطل ما قرره من الجبايات ووزعه من الجنايات، وأعفى الرعية من المطالبات والمصادرات.
ولما وصلت البحريّة المذكورون الهاربون من مصر إلى الملك الناصر يوسف صاحب الشام أطعموه في ملك مصر، فرحل من دمشق بعسكره ونزل غمتا من الغور، فأرسل إلى غزة عسكراً فنزلوا بها، وكذكل برز المعز أيبك صاحب مصر إلى العباسة، وخرجت السنة وهم على ذلك.