استقر في السلطنة بعد وفاة والد الملك الظاهر، وكان استقراره في شهر ربيع الأول سنة ست وسبعين وستمائة، وذلك أن الأمير بدر الدين بيليك الخزندار لما وصل بالعساكر إلى الديار المصريّة ألقى المقاليد إليه، ووقف بين يديه، واستمر على منا صحته وطاعته كما كان مع أبيه.
وفي يوم الجمعة السابع والعشرين من شهر صفر خطب في جميع الجوامع بالديار المصرية للملك السعيد.
وفي منتصف ربيع الأول ركب السلطان الملك السعيد بالعصائب على أبيه، وبين يديه الجيش بكماله الشامىّ والمصرىّ حتى وصل إلى الجبل الأحمر، وفرح الناس به فرحا شديدا، وعمره يومئذ تسع عشرة سنة، وعليه أبهة الملك، ورئاسة السلطنة، واستقر الأمير بدر الدين بيليك الخزندار في نيابة السلطنة على ما كان عليه مع والده، فلم تطل أيامه ومات بعد ذلك، كما سنذكره في الوفيات إن شاء الله تعالى.
وتولى عوضه النيابة شمس الدين الفارقانىّ الظاهرى أستاذ الدار، وكان يباشر نيابة السلطنة بالديار المصرية عند سفر أستاذه إلى البلاد الشاميةّ، وكان حاداً حازما، فلما استتب له حديث النيابة، والتقدم على تلك العصابة، ضمّ إليه أقواما كان الملك الظاهر ألزمهم ببيع نفوسهم له على الكبر، فلم يمكنهم مخالفته ما أمر، فاشتراهم زعم من ورثة مواليهم ومن ادعى أن له النظر عليهم، فكان ممن التف أصحابه، وانحاز إلي جنابه شمس الدين أقوش، وقطليجا الرومى وسيف الدين قليج البغدادي، وسيف الدين بيجق البغدادي، وعلم الدين سنجر طردج، وأسد الدين قراصقل، وعز الدين مغان أمير شكار، وسيف الدين بكتمر السلحدار، وأمثالهم.
ثم أن الملك السعيد مالت به الأهواء وتقلبت به الآراء، وقدم الأصاغر على الأكابر، وأقضى الأكابر بقرب الأصاغر، وكان يميل إلى أقرانه ومعاصرى أسنانه، فأمسك الأمير شمس الدين سنقر الأشقر، والأمير بدر الدين بيسرى، وهما من أكابر الأمراء، وكانا جناحى والده.
فلما قبض عليهما دخل الأمير بدر الدين محمد بن بركه إلى أخته أم الملك، الملك السعيد، وقال لها: إن والدك هذا قد أساء التدبير، واعتمد أسباب التدمير، وأمسك مثل هؤلاء، وعول الصغار الناقصى الآراء، والمصلحة أن تردّيه إلى الصواب لئلا يفسد نظامه وتقصير أيامه، فبلغ السلطان كلام خاله، فبادر باعتقاله، فقامت والدته عليه وعنفته على سوء فعله، حتى أفرج عن الأمراء المذكورين، وقد تمكنت العداوة في قلوبهم وسكنت البغضاء في صدورهم، فاجتمعوا وتشاوروا فيما بينهم. فقال بعضهم: نخرج إلى الشام ونخلى له البلاد، وقال بعضهم: بل نتحدث معه ونصده عن هذه الفعال الذميمة، فاجتمعوا ليلة الخميس على ذلك، وطلعوا بكرة الخميس إلى القلعة في مماليكهم وألزمهم ومن انضم إليهم من الأمراء والعسكر، فامتلأ بهم الإيوان والرحبة، وأرسلوا إليه يقولون: إنك قد أفسدت الخواطر، وغيرت عليك الضمائر، وتعرضت إلى الأمراء الأكابر، فإما أن ترجع عن ذلك وإلا كان لنا ولك شأن، فلاطفهم وأخذ خواطرهم، وتقرر الصلح، وسكن ثائر الشتر.
وقال بيبرس: فلاطفهم وتنصل لهم من كل ما يكرهون، وأرسل لهم أربع تشريفات جليلة إلى الأمراء الأربعة الكبار، فأبوا أن يلبسوها وقالوا: نحن ما تكلمنا لأجل أنفسنا، بل لأجل العسكر كله، فكيف نلبس نحن دونهم وخواطرهم مغلية؟ فأعاد جوابهم بما طمأن قلوبهم، وتقرر الصلح، وحلف لهم أنه لا يريد بهم سوءاً ولا يبغى لهم شرا، وتولى أخذ اليمين منه الأمير بدر الدين الأيدمرى، فرضى الأمراء بذلك وانصرفوا، واستقر الحال هنيهةً.