ما هو خير وأفضل من الدنيا كلها، لأنه سبحانه وصف الدنيا بالقلة فقال تعالى: {قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ} [النساء: 77] ، وقال تعالى: {ومَن يُؤْتَ الحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِى خَيْراً كَثِيراً} [البقرة: 269] .

فدل على أن ما يؤتيه عبده من حكمته خير من الدنيا وما عليها ولا يعقل هذا كل أحد بل لا يعقله إلا من له لب وعقل زكى، فقال تعالى:

{وَمَا يَذَّكَّرُ إِلا أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [البقرة: 269] ، ثم أخبر أن كل ما أنفقوه من نفقة أو تقربوا به إليه من نذر فإنه يعلمه، فلا يضيع لديه، بل يعلم ما كان لوجهه، ويكل جزاءَ من عمل لغيره إلى من عمل له، فإنه ظالم لنفسه وما له من نصير، ثم أخبر سبحانه عن أحوال المتصدقين لوجهه فى صدقاتهم، وأنه يثيبهم عليها إن أبدوها أو كتموها بعد أن تكون خالصة لوجهه فقال: {إِن تُبْدُوا الصِّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِى} [البقرة: 271] أى فنعم شيء هى، وهذا مدح لها موصوفة بكونها ظاهرة بادية، فلا يتوهم مبديها بطلان أَثره وثوابه فيمنعه ذلك من إخراجها وينتظر بها الإخفاءَ فتفوت أو تعترضه الموانع ويحال بينه وبين قلبه أو بينه وبين إخراجها، فلا يؤخر صدقة العلانية بعد حضور وقتها إلى وقت السر، وهذه كانت حال الصحابة.

ثم قال: {وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: 271] ، فأخبر أن إعطاءَها للفقير فى خفية خير للمنفق من إظهارها وإعلانها. وتأمل تقييده تعالى الإخفاءَ بإيتاءِ الفقراءِ خاصة ولم يقل: وإن تحفوها فهو خير لكم، فإن من الصدقة ما لا يمكن إخفاؤه كتجهيز جيش وبناءِ قنطرة وإجراءِ نهر أو غير ذلك، وأما إيتاؤها الفقراء ففى إخفائها من الفوائد الستر عليه وعدم تخجيله بين الناس وإقامته مقام الفضيحة، وأن يرى الناس أن يده هى اليد السفلى وأنه [فقير] لا شيء له فيزهدون فى معاملته ومعاوضته، وهذا قدر زائد من الإحسان إليه بمجرد الصدقة مع تضمنه الإخلاص وعدم المراءَاة وطلبهم المحمدة من الناس، وكان إخفاؤها للفقير خيراً من إِظهارها بين الناس، ومن هذا مدح النبى صلى الله عليه وسلم صدقة السر وأثنى على فاعلها وأخبر أنه أحد السبعة الذين هم فى ظل عرش الرحمن يوم القيامة.

ولهذا جعله سبحانه خيراً للمنفق وأخبر أنه يكفر عنه بذلك الإنفاق من سيئاته، ولا يخفى عليه سبحانه أعمالكم ولا نياتكم، فإنه بما تعملون خبير، ثم أخبر أن هذا الإنفاق إنما

طور بواسطة نورين ميديا © 2015