يخالف العلم والعلم يخالفه.
وليس من الإنصاف رد العلم الصحيح بمجرد الذوق والحال، وهذا أصل الضلالة، ومنه دخل الداخل على كثير من السالكين فى تحكيم أذواقهم ومواجيدهم على العلم، فكانت فتنة فى الأرض وفساد كبير. وكم قد ضل وأضل محكم الحال على العلم، بل الواجب تحكيم العلم على الحال ورد الحال إليه، فما زكاه شاهد العلم فهو المقبول، وما جرحه شاهد العلم فهو المردود، وهذه وصية أرباب الاستقامة من مشايخ الطريق [رضى الله عنه] يوصون بذلك ويخبرون أن كل ذوق ووجد لا يقوم عليه شاهدان اثنان من العلم فهو باطل، ويقال ثانياً: ليس من شرط قبول العلم بالشيء من العالم به أن يكون ذائقاً له، أفتراك لا تقبل معرفة الآلام والأوجاع وأدويتها إلا ممن قد مرض بها وتداوى بها؟ أفيقول هذا عاقل؟ ويقال ثالثاً: أتريد بالذوق أن يكون القائل قد بلغ الغاية القصوى فى هذه المرتبة فلا يقبل إلا ممن هذا شأْنه، أو تريد أنه لا بد أن يكون له أذواق أهله من حيث [الحملة] ؟ فإن أردت الأول لزمك أن لا يقبل أحد من أحد، إذ ما من ذوق إلا وفوقه أكمل منه، وإن أردت الثانى فمن أين لك نفيه عن صاحب العلم؟ ولكن لإعراضك عن العلم وأهله صرت تظن أن أهل العلم لهم العلم والكلام والوصف، وللمعرضين عنه الذوق والحال والاتصاف، والظن يخطيء تارة ويصيب، والله أعلم.
فصل
قال أبو العباس: "فعند القوم كل ما هو من العبد فهو علة تليق بعجز العبد وفاقته، وإنما عين الحقيقة عندهم أن يكون قائماً بإقامته له، محباً بمحبته له، ناظراً بنظره، لا من غر أن يبقى معه بقية تناط باسم أو تقف على رسم أو تتعلق بنظر أو تنعت بنعت أو توصف بوصف أو تنسب إلى وقت، صم بكم عمى لدينا محضرون".
فيقال: هذا هو مقام الفناءِ الذى يشير إليه كثير من المتأخرين، ويجعلونه غاية الغايات ونهاية النهايات وكل ما دونه فمرقاة إليه وعيلة عليه. ولهذا كانت المحبة عندهم آخر منازل الطريق، وأول أودية الفناءِ، والعقبة التى ينحدر منها على منازل المحو، وهى آخر منزل يلقى فيه مقدمة العامة ساقة الخاصة، وما دونها إعراض الإعراض.
فجعلوا المحبة منزلاً من المنازل ليست غاية، وجعلوها أول الأودية التى يسلك فيها أصحاب الفناءِ، فهى أول أوديتهم والعقبة التى ينحدرون منها إلى منازل الفناءِ والمحو.
فليست هى الغاية عندهم، وأصحابها عندهم مقدمة العامة، وساقة أصحاب الفناءِ عندهم مقدمون عليهم