سابقون لهم، فإنهم ساقة الخاصة وهؤلاءِ مقدمة العامة، فهذا كله بناء على أن الفناءَ هو الغاية التى لا غاية للعبد وراءَها ولا كمال له يطلبه فوقها. وقد تبين ما فى ذلك، وما هو الصواب بحمد الله، فقوله [رحمه الله] : "كل ما هو من العبد فهو علة تليق بعجز العبد وفاقته" يقال له: إذا كان إنما [منه] العبودية التى يحبها الله كسباً ومباشرة فهو قائم بها شاهد لمقيمه فيها مطالع [لمنه] ، وفضله، فأى علة هنا سوى وقوفه مع شهودها منه، وغيبته عن شهود إقامة الله وتحريكه إياه، وتوفيقه له؟ فالعلة هى بهذا الشهود وهذه الغيبة المنفاية لكمال الافتقار والفاقة إلى الله، وأما شهود فقره وفاقته ومجموع حالاته وحركاته وسكناته إلى وليه [وبارئه] مستعيناً به أن يقيمه فى عبودية خالصة له، فلا علة هناك.

قوله: "وإنما عين الحقيقة أَن يكون قائماً بإقامته له" إلى آخر كلامه، يقال: إن أردت أنه يشهد إقامة الله له حتى قام ومحبته له حتى أحبه ونظره إلى عبده حتى أقبل عبده عليه ناظراً إليه بقلبه فهذا حق، فإن ما من الله سبق ما من العبد، فهو الذى أحب عبده أولاً فأحبه العبد، وأقام العبد فى طاعته فقام بإقامته، ونظر إليه فأقبل العبد عليه، وتاب عليه أولاً فتاب إليه [عبده] .

وإن أردت أنه لا يشهد فعله البتة بل يفنى عنه جملة ويشهد أن الله وحده هو الذاكر لنفسه الموحد لنفسه المحب لنفسه، وأن هذه الأسباب والرسوم تصير عدماً [حرماً] فى شهوده، وإن لم تفن وتعدم فى الخارج- وهذا هو مراد القوم- فدعوى [أن هذا هو الكمال الذى لا كمال فوقه ولا غاية وراءه دعوى] مجردة لا يستدل عليها مدعيها بأكثر من الذوق والوجد، وقد تقدم أن هذا ليس بغاية، وإنما غايته أن يكون من عوارض الطريق، وأن شهود الأشياء فى مراتبها ومنازلها التى أنزلها سبحانه إياها أكمل وأتم.

ويكفى فى بعض هذا الاحتجاج عليه بصفات الكفار، فإن الله ذمهم بأنهم صم بكم عمى، فهذه صفات نقص وذم لا صفات كمال ومدحة، وهل الكمال إلا فى حضور السمع والبصر والعقل وكمال التمييز وتنزيل الخلق والأمر منازلهما والتفريق بين ما فرق الله بينه؟ فالأَمر كله فرقان وتمييز وتبيين، فكلما كان تمييز العبد وفوقانه أتم كان حاله أكمل وسيره أصح وطريقه أقوم وأقرب. والحمد لله رب العالمين.

فصل

قال أبو العباس: وأما الشوق فهو هبوب القلب إلى غائب، وإعواز الصبر عن فقده، وارتياح السر إلى طلبه. وهو من مقامات العوام، وأما الخواص

طور بواسطة نورين ميديا © 2015