صلى الله عليه وسلم قطع تلك المسافات وخرق تلك الحجب ورأى ما رأى وما زاغ بصره وما طغى، ولا [اضطرب] فؤاده ولا صعق [صلوات الله وسلامه عليه] .

ولا ريب أن الوراثة المحمدية أكمل من الوراثة الموسوية وتأَمل شأْن النسوة اللاتى رأَين يوسف كيف [أدهشهن] حسنه وتعلقت [قلوبهن] ، به، وأفناهن عن أنفسهن حتى قطعن أيديهن وامرأة العزيز أكمل حباً منهن له وأشد ولم يعرض لها ذلك، مع أن حبها أقوى وأتم، لأن حبها كان مع البقاءِ وحبهن كان مع الفناءِ، فالنسوة غيبهن حسنه وحبه عن أنفسهن، فبلغن من تقطيع أيديهن ما بلغن، امرأة العزيز لم [يغيبها حبها له] عن نفسها، بل كانت حاضرة القلب متمكنة فى حبها، فحالها حال الأقوياءِ من المحبين، وحال النسوة حال أصحاب الفناءِ.

ومما يدل على أن حال البقاء فى الحب أكمل من حال الفناءِ أن الفناءَ إنما يعرض لضعف النفس عن وارد المحبة، فتمتليء به وتضعف عن حمله فيفنيها ويغيبها عن تمييزها وشهودها فيورثها الحيرة والسكوت، وأما حال البقاءِ فيدل على ثبات النفس وتمكنها، وأنها حملت من الحب ما لم يطق حمله صاحب الفناءِ، فتصرفت فى حبها ولم يتصرف فيها، والكمال من إذا ورد عليه الحال تصرف هو فيه ولا يدع حاله يتصرف فيه.

وأيضاً فإن البقاءَ متضمن لشهود كمال المحبوب، ولشهود ذل عبوديته ومحبته، ولشهود مراضيه وأوامره، والتمييز بين ما يحبه ويكرهه، والتمييز بين المحبوب إليه والأحب، والعزم على إيثار الأحب إليه، فكيف يكون [الفانى عن شهوة هذا يتعيب الحب له أكمل وأقوى؟ وأى عبودية للمحبوب فى فناءِ المحب فى محبته؟] .

وهل العبودية كل العبودية إلا فى البقاءِ والصحو وكمال التمييز وشهود عزة محبوبه وذله وهو فى حبه واستكانته فيه، واجتماع إرادته كلها فى تنفيذ مراد محبوبه؟ فهذا وأمثاله مما يدل على أن الدرجة الثانية التى أشار إليها أكمل من الثالثة وأتم وهكذا فى جميع أبواب الكتاب والله أعلم.

وكأَنى بك تقول لا يقبل فى هذا إلا كلام من قطع هذه المفاوز حالاً وذوقاً، وأما الكلام فيها بلسان [العلم] المجرد فغير مقبول، والمحبون أصحاب الحال والذوق فى المحبة لهم شأْن وراءَ الأدلة والحجج.

فاعلم أولاً أن كل حال وذوق ووجد وشهود لا يشرق عليه نور العلم المؤيد بالدليل فهو من عبث النفس وحظوظها، فلو قدر أن المتكلم إنما تكلم بلسان العلم المجرد فلا ريب أن ما كشفه العلم الصحيح المؤيد بالحجة أنفع من حال

طور بواسطة نورين ميديا © 2015