يفتر من ذكره، [ولا يمل من حقه] ولا يأْنس بغيره.
وقال أبو يزيد: المحبة استقلال الكثير من نفسك واستكثار القليل من حبيبك. وقيل: المحبة أن يميتك حبيبك وتحيا به. وقال أبو عبد الله القرشى: المحبة أن تهب كلك لمن أحببت، فلا يبقى لك منك شيء. وقيل: أن تمحو من قلبك ما سوى المحبوب، وقيل: المحبة نسيان حظك من محبوبك وفقرك بكلك إليه.
وقال النصر أباذى: المحبة مجانبة السلوّ على كل حال. وقال الحارث بن أسد: المحبة ميلك إلى المحبوب بكليتك، ثم إيثارك له على نفسك وروحك ومالك، ثم موافقتك له سراً وجهراً، ثم علمك بتقصيرك فى حبه.
وقيل: المحبة سكر لا يصحو إلا بمشاهدة المحبوب. وقيل: المحبة إقامتك بالباب على الدوام. وقيل: المحبة حرفان: حاءٌ، وباءٌ. فالحاءُ الخروج عن الروح، وبذلها للمحبوب، والباءُ الخروج عن البدن وصرفه فى طاعة المحبوب.
وقال أبو عمر الزجاجى: سألت الجنيد عن المحبة فقال: تريد الإشارة؟ قلت: لا. قال: تريد الدعوى؟ قلت: لا. قال: فإيش تريد؟ قلت: عين المحبة، فقال: أن تحب ما يحب الله فى عباده، وتكره ما يكرهه الله فى عباده. وقيل: المحبة معية القلب والروح مع المحبوب معيةً لا تفارقه، فإن المرءَ مع من أحب، وقد قيل فى المحبة حدود أكثر من هذا وكل هذا تعن، ولا توصف المحبة ولا تحد بحد أوضح من المحبة، ولا أقرب إلى الفهم من لفظها.
وأما ذكر الحدود والتعريفات فإنما يكون عند حصول الإشكال والاستعجام على الفهم، فإذا زال الإشكال وعدم الاستعجام، فلا حاجة إلى ذكر الحدود والتعريفات، كما قال بعض العارفين: إن كل لفظ يعبر به عن الشيء فلا بد أن يكون ألطف وأرق منه. والمحبة ألطف وأرق من كل ما يعبر به عنها.
فصل
قال أبو العباس: "وقال قوم: ليس للمحبة صيغة يعبر بها عن حقيقتها.
فإن الغيرة من أوصاف المحبة، والغيرة تأْبى إلا التستر والاختفاءَ، وكل من بسط لسانه بالعبارة عنها والكشف عن سرها فليس له منها ذوق، وإنما حركه وجدان الرائحة، ولو ذاق منها شيئاً لغاب عن الشرح والوصف. فإن المحبة لا تظهر على المحب بلفظه وإنما تظهر عليه بشمائله ونحوله ولا يفهم حقيقتها من المحب سوى المحبوب، لموضع اقتداح الأسرار من القلوب، كما قيل: