..
فلا يزنُ العبد إيمانه ومحبته لله بمثل ميزان الصلاة، فإنها الميزان العادل، الذى وزنه غير عائل.
الموطن الرابع: عند الشدائد والأهوال، فإن القلب فى هذا الموطن لا يذكر إلا أحب الأشياء إليه، ولا يهرب إلا إلى محبوبه الأعظم عنده. ولهذا كانوا يفتخرون بذكرهم من يحبونهم عند الحرب واللقاءِ، وهو كثير فى أشعارهم كما قال:
ذكرتك والخطى يخطر بيننا ... وقد نهلت منى المثقفة السمر
وقال غيره:
ولقد ذكرتك والرماح كأنها ... أَشطان بئر فى لبان الأَدهم
وقد جاءَ فى بعض الآثار: يقول تبارك وتعالى: "إن عبدى كل عبدى الذى يذكرنى وهو ملاق قرنه"، والسر فى هذا- والله أعلم- أن عند مصائب الشدائد والأهوال يشتد خوف القلب من فوات أحب الأشياءِ إليه، وهى حياته التى لم يكن يؤثرها إلا لقربه من محبوبه، فهو إنما يحب حياته لتنعمه بمحبوبه، فإذا خاف فوتها بدر إلى قلبه ذكر المحبوب الذى يفوت بفوات حياته.
ولهذا- والله أعلم- كثيراً ما يعرض للعبد عند موته لهجه بما يحبه وكثرة ذكره له، وربما خرجت روحه وهو يلهج به. وذكر ابن أبى الدنيا فى كتاب "المحتضرين" عن زفر [رحمه الله] أنه جعل يقول عند موته: لها ثلاثة أخماس الصداق، لها ربع الصداق، لها كذا ومات، لامتلاءِ قلبه من محبة الفقه والعلم، وأيضاً فإنه عند الموت تنقطع شواغله وتبطل حواسه فيظهر ما فى القلب ويقوى سلطانه، فيبدو ما فيه من غير حاجب ولا مدافع. وكثيراً ما سمع من بعض المحتضرين عند الموت: شاه مات، وسمع من آخر بيت شعر لم يزل يغنى به حتى مات وكان مغنياً، وأخبرنى رجل عن قرابة له أنه حضره عند الموت- وكان تاجراً يبيع القماش- قال: فجعل يقول: هذه قطعة جيدة هذه على قدرك، هذه مشتراها رخيص يساوى كذا وكذا حتى مات.
والحكاية فى هذا كثيرة جداً، فمن كان مشغولاً بالله وبذكره ومحبته فى حال حياته، وجد ذلك أحوج ما هو إليه عند خروج روحه إلى الله، ومن