أَنا مطيع لإرادته، وينشد فى ذلك:
أصبحتُ منفعلاً لما يختاره ... منى ففعلى كله طاعات
ويقول أحدهم: إبليس وإن عصى الأمر، لكنه أطاع الإرادة، يعنى أن فعله طاعة لله من حيث موافقة إرادته، وهذا انسلاخ من ربقة العقل والدين، وخروج عن الشرائع كلها، فإن طاعة الله إنما هى موافقة الأمر الدينى الذى يحبه الله ويرضاه، وأما دخوله تحت القدر الكونى الذى يبغضه ويسخطه ويكفر فاعله ويعاقبه، فهى المعصية والكفر ومعاداته ومعاداة دينه. ولا ريب أن المسرفين على أنفسهم المنهمكين فى الذنوب والمعاصى المعترفين بأنهم عصاة مذنبون أقرب إلى الله من هؤلاءِ العارفين المنسلخين عن دين الأنبياءِ كلهم، والذين لا عقل لهم ولا دين فنسأل الله أن يثبت قلوبنا على دينه:
أما البيت الذى استشهد به فهو من أبيات لأبى الشيص من قصيدة يقول فيها:
وقف الهوى بى حيث أنت ... فليس لى متأخر عنه ولا متقدم
وأهنتنى فأَهنت نفسى جاهداً ... ما من يهون عليك ممن يكرم
أشبهت أعدائى فصرت أحبهم ... إذ كان حظى منك حظى منهم
أجد الملامة فى هواك لذيذة ... حباً لذكرك فلْيلُمنى اللوم
وقد ناقض فيها فى دعواه مناقضة بينه، فإنه أخبر أن هواه قد صار وقفاً عليها لا يزول ولا يتحول بتقدم ولا تأخر، ثم أخبر أنه قد بلغ به حبها وهواها إلى أن صار مرادها من نفسه غير مراده هو، فلما أرادت إهانته بالصد والهجران والبعد سعى هو فى إهانة نفسه بجهده موافقة لها فى إرادتها، فصارت إهانته لنفسه مرادة محبوبة له من حيث هى مرادة محبوبة لها، وزعم أنه لو أكرم نفسه لكان مخالفاً لمحبوبته مكرماً لمن أهانته.
ثم نقض هذا الغرض من حيث شبهها بأعدائه الذين هم أبغض شيء إليه. ووجه هذا التشبيه أنه لم يحصل منها من حظه ومراده على شيء، بل الذى يحصل له منها مثل ما يحصل له من أعدائه [من إهانتهم له وأذاه فصار حظه منها ومن أعدائه] واحداً، فصارت شبيهة [بهم] ، فأين هذا من الموافقة التامة لها فى مرادها، بحيث يهين نفسه لمحبتها فى إهانته؟ ثم أخبر أن له منها حظاً مراداً وأن ذلك الحظ الذى يريده لم يحصل له،