وإنما حصل له منه نظير ما يحصل له من أعدائه.

وهذه شكاية فى الحقيقة وإخبار عن [محبه معلول] بالحظ، وشكاية للحبيب بتفويته عليه [ثم إنه أخبر عن جناية أخرى وهى أنه شرك بينها وبين أعدائه] فى حبه لها، فصار حبه منقسماً بعضه له وبعضه لأعدائه لشبههم إياها، ثم إن فى الشعر جناية أُخرى عليها وهو أنه شبهها بمن جبلت القلوب على بغضه وهو العدو، واللائق تشبيه الحبيب بما هو أحب الأشياء إلى النفس كالسمع والبصر والحياة والروح والعافية، كما هو عادة الشعراءِ والناس فى نظمهم ونثرهم كما هو معروف بينهم وهو جادة كلاهم.

ثم أخبر بمحبته لأعدائه لشبههم بها، فتضمن كلامه معاداة من يحبه ومحبة من يعاديه، فإنها إذا أشبهت أعداءه لزم أن يحصل لها نصيب من معاداته وإذا أشبهها أعداؤه لزم أن يحصل لهم نصيب من محبته كما صرح به فى جانبهم وترك التصريح فى جانبها، وهو مفهوم من كلامه، ثم أخبر أنه يلتذ بملامة اللوام فى هواها لما يتضمن من ذكراها، وهذا يدل على قوة محبتها وسماع ذكرها، وهذا غرض صحيح مع أنه مدخول أيضاً، فإن محبوبته قد تكره ذلك لما يتضمن من فضيحتها به وجعلها مضغة للماضغين، فيكون محباً لنفس ما تكرهه، وهذه محبة فاسدة معلولة ناقضة [لدعواه] موافقتها فى محابها.

فصل

قال: "وقيل: المحبة القيام بين يديه وأنت قاعد، ومفارقة المضجع وأنت راقد، والسكوت وأنت ناطق، ومفارقة المأْلوف والوطن وأنت مستوطن".

فيقال: وهذا أيضاً أثر من آثار المحبة وموجب من موجباتها وحكم من أحكامها. وهو صحيح، فإن المحبة توجب سفر القلب نحو المحبوب دائماً، والمحبة وطنه وتوجب مثوله وقيامه بين يدى محبوبه وهو قاعد، وتجافيه عن مضجعه ومفارقته إياه وهو فيه راقد، وفراغه لمحبوبه كله وهو مشغول فى الظاهر بغيره. كما قال بعضهم:

وأُديم نحو محدثى ليرى ... أن قد عقلت وعندكم عقلي

وقال بعض المريدين لشيخه: أيسجد القلب بين يدى الله؟ فقال: نعم سجدة لا يرفع رأْسه منها إلى يوم القيامة. فهذه سجدة متصلة بقيامه وقعوده وذهابه ومجيئه وحركته وسكونه.

وكذلك يكون جسده فى مضجعه وقلبه قد قطع المراحل مسافراً إلى حبيبه، فإذا أخذ مضجعه اجتمع عليه حبه وشوقه، فيهزه المضجع إلى مسكنه. كما

طور بواسطة نورين ميديا © 2015