الوقوف مع حده، فإن ذلك عسر جداً، بل لا بد من مجاوزته إلى الفضل أو التقصير عنه إلى الظلم، فهو [لخوفه] من تضييع الحق والدخول فى الظلم يختار الإيثار بما لا ينقصه ولا يضره ويكتسب به جميل الذكر فى الدنيا وجزيل الأجر فى الآخرة، مع ما يجلبه له الإيثار من البركة وفيضان الخير عليه، فيعود عليه من إيثاره أفضل مما بذله. ومن جرب هذا عرفه، ومن لم يجربه فليستقر أحوال العالم. والموفق من وفقة الله سبحانه وتعالى
فصل
والإيثار المتعلق بالخالق أجل من هذا وأفضل، وهو إيثار [رضاه على] رضى غيره، وإيثار حبه على حب غيره، وإيثار خوفه ورجائه على خوف غيره ورجائه، وإيثار الذل له [و] الخضوع والاستكانة والضراعة والتملق على بذل ذلك لغيره. وكذلك إيثار الطلب منه والسؤال وإنزال الفاقات به على تعلق ذلك بغيره، فالأول آثر بعض العبيد على نفسه فيما هو محبوب له، وهذا آثر الله على غيره ونفسه من أعظم الأغيار. فآثر الله عليها فترك محبوبها لمحبوب الله.
وعلامة هذا الإيثار شيئان، أحدهما: فعل ما يحب الله إذا كانت النفس تكرهه وتهرب منه، الثانى: ترك ما يكرهه إذا كانت النفس تحبه وتهواه، فبهذين الأَمرين يصح مقام الإيثار، ومؤنة هذا الإيثار شديدة لغلبة الأغيار وقوة داعى العادة والطبع، فالمحنة فيه عظيمة والمؤنة فيه شديدة والنفس عنه ضعيفة، ولا يتم فلاح العبد وسعادته إلا به، وأنه ليسير على من يسره الله عليه، فحقيق بالعبد أن يسمو إليه وإن صعب المرتقى، وأن يشمر إليه وإن عظمت فيه المنحة، ويحمل فيه خطراً يسيراً لملك عظيم وفوز كبير، فإن ثمرة هذا فى العاجل والآجل ليست تشبه ثمرة شيء من الأعمال، ويسير منه يرقى العبد ويسيره ما لا يرقى غيره إليه فى المدد المتطاولة، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاءُ، ولا تتحقق المحبة إلا بهذا الإيثار.
والذى يسهله على العبد أُمور: أحدها: أن تكون طبيعته لينة منقادة سلسة ليست بجافية ولا قاسية، بل تنقاد معه بسهولة. الثانى: أن يكون إيمانه راسخاً ويقينه قوياً، فإن هذا ثمرة الإيمان ونتيجته. الثالث: قوة صبره وثباته.
فبهذه الأمور الثلاثة الأُمور ينهض إلى هذا المقام ويسهل عليه دركه. والنقص والتخلف فى النفس عن هذا يكون من أمرين: أن تكون جامدة غير سريعة الإدراك، بل بطيئة ولا تكاد ترى حقيقة الشيء إلا بعد عسر، وإن رأتها اقترنت به الأوهام والشكوك والشبهات والاحتمالات، فلا