على الإيثار به ما لم يخرم عليه ديناً، أو يجلب له مفسدة، أو يقطع عليه طريقاً عزم على سلوكه إلى ربه، أو شوش عليه قلبه، بحيث يجعله متعلقاً بالخلق، فمفسدة إيثار هذا أرجح من مصلحته، فإذا ترجحت مصلحة الإيثار، بحيث تتضمن إنقاذ نفسه من هلكة أو عطب أو شدة ضرورة- وليس للمؤثر نظيرها- تعين عليه الإيثار، فإن كان به نظيرها لم يتعين عليه الإيثار، ولكن لو فعله لكان غاية الكرم والسخاءِ والإحسان، فإنه من آثر حياة غيره على حياته وضرورته على ضرورته فقد استولى على أَمد الكرم والسخاء وجاوز أقصاه وضرب فيه بأوفر الحظ.

وفى هذا الموضع مسائل فقهية ليس هذا موضع ذكرها. فإن قيل: فما الذى يسهل على النفس هذا الإيثار، فإن النفس مجبولة على الأثرة لا على الإيثار؟ قيل: يسهله أُمور:

أحدها: رغبة العبد فى مكارم الأخلاق ومعاليها، فإن من أفضل أخلاق الرجل وأشرفها وأعلاها الإيثار، وقد جبل الله القلوب على تعظيم صاحبه ومحبته، كما جبلها على بغض المستأثر ومقته، لا تبديل لخلق الله. والأخلاق ثلاثة: خلق الإيثار، وهو خلق الفضل. وخلق القسمة والتسوية، وهو خلق العدل. وخلق الاستئثار والاستبداد وهو خلق الظلم. فصاحب الإيثار محبوب مطاع مهيب، وصاحب العدل لا سبيل للنفوس إلى أذاه والتسلط عليه ولكنها لا تنقاد إليه انقيادها لمن يؤثرها، وصاحب الاستئثار النفوس إلى أذاه والتسلط عليه أسرع من السيل فى حدوره. وهل أزال الممالك وقلعها إلا الاستئثار؟ فإن النفوس لا صبر لها عليه. ولهذا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه بالسمع والطاعة لولاة الأمر وإن استأْثروا عليهم، لما فى طاعة المستأْثر من المشقة [والكره] .

الثانى: النفرة من أخلاق اللئام، ومقت الشح وكراهته له.

الثالث: تعظيم الحقوق التى جعلها الله سبحانه وتعالى للمسلمين بعضهم على بعض، فهو يرعاها حق رعايتها، ويخاف من تضييعها، ويعلم أنه إن لم يبذل فوق العدل لم يمكنه

طور بواسطة نورين ميديا © 2015